صدر حديثا كتاب "فتاة السر"، من إعداد وترجمة الشاعر والمسرحي والمترجم ميسرة صلاح الدين، عن دار بيت الياسمين للنشر، ويعرض الكتاب بمعرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الثالثة والخمسين. وعن الكتاب يقول الشاعر ميسرة صلاح الدين: وفقًا لمنظمة العمل الدولية،يوجد ما يزيد على أربعين مليون شخص في جميع أنحاء العالم ضحايا للرق الحديث، إلى جانب وجود ما يقرب من مائة وخمسين مليون طفل ضحايا لجريمة عمالة الأطفال تحت سن العمل القانونية، وهو ما يمثل طفلًا واحدًا من كل عشرة أطفال في جميع أنحاء العالم. ويتساوى في هذا جميع دول العالم الغنية والفقيرة، طبقًا لتأكيدات المنظمة التي صرحت بأن أكثر من أربعمائة ألف شخص في الولاياتالمتحدة يعيشون في ظل "عبودية حديثة"، وغيرهم نحو مائة وخمسين ألفًا آخرين يعيشون في بريطانيا. حتى إن الأممالمتحدة وضعت تعريفات وأمثلة جديدة لأشكال الرق المعاصر، وهي: الاتجار بالأشخاص والاستغلال الجنسي، والزواج القسري، والتجنيد القسري للأطفال لاستخدامهم في النزاعات المسلحة. وهي أمثلة من المشاهد اليومية المتكررة التي لا تخلو منها نشرات الأخبار وعناوين الصحف ومواقع الإنترنت، وهي جزء من الروايات التي لا تتوقف عن سردها مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الإخبارية وغيرها من الوسائط الحديثة التي أتاحت فرصًا أكبر للتعبير والمشاركة، فأزاحت الستار عن ألمٍ عميقٍ وجراح لا تندمل بأقلام أصحابها وبرؤيتهم الذاتية، ما شكل صدمة نوعية في وعي الإنسان المعاصر وأبرز أمامه إشكاليات جديدة لم يكن يتخيلها، كما أعاد للأذهان مشاهد قديمة وغامضة لسفن العبيد التي تجوب العالم وتتاجر بالبشر تحت غطاء من الشرعية أكسبتها إياه السلطة السياسية أو سلطة المال والنفوذ، وربما السلطة الدينية في بعض الأحيان. ويتابع ميسرة: من هذه القصص المأساوية قصةٌ حقيقيةٌ وثقها حكم قضائي من المحكمة الفيدرالية الأمريكية، وتابعتها كل وكالات الأنباء في العالم وتجمعت حولها الأنظار لفترة طويلة،هي قصة الفتاة "شيماء السيد حسن" التي ولدت في قرية صغيرة بالقرب من محافظة الإسكندرية، لعائلة فقيرة فقدت منزلها في زلزال أرضي عنيف ضرب المدينة ولم تستطع العائلة أن تنجو من آثاره على الإطلاق. وبين عام شيماء الثامن الذي تركت فيه المنزل مرغمة، وعامها الثاني والعشرين الذي وقفت فيه في قاعة ضخمة بجوار تسعمائة شخص آخرين يتلون يمين القسم والولاء للولايات المتحدةالأمريكية لإتمام إجراءات الحصول على الجنسية- رحلةٌ شاقة على طريق محفوف بالخوف والدموع والقسوة المفرطة التي لازمتها لسنوات طويلة كظلٍّ وفيٍّ لا يفارقها. بدأت الحكاية بزهراء، الأخت الكبرى لشيماء التي قدمتها عائلتها طواعية للخدمة في منزل عائلة ثرية تحت وطأة الفقر والظروف، لم تمكث زهراء في وظيفتها كثيرًا، فهي طفلة لا تتحمل بطش السيد "عبد الناصر عيد يوسف إبراهيم" الذي وصفته شيماء في مذكراتها بأنه سليط اللسان غليظ القلب واليد، وزوجته السيدة "أمل أحمد عويس عبد المطلب" التي لم تكن شيماء -حسب مذكراتها- تخشى في العالم شخصًا مثلما كانت تخشاها. فهربت زهراء من منزل تلك العائلة الثرية وسرقت مبلغًا كبيرًا من النقود، وكنوع من تكفير الذنب ورغبةً في الحفاظ على مصدر الدخل قدمت العائلة الفقيرة "شيماء" للعائلة الغنية، كوجبة شهية وطازجة لتتجرع من كأس الهوان والذل التي أفلتت أختها زهراء منها. وبعد فترة من الوقت تعرض السيد "عبد الناصر عيد يوسف إبراهيم" لمشاكل قانونية في مصر فقرر الهجرة بعائلته إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، وقرر أن يصطحب شيماء معهم لتستمر في أداء دورها في خدمة العائلة وتوفير سبل الراحة والرفاهية لهم. كانت شيماء طفلة في ذلك الوقت لم تتجاوز عامها الثامن ولكنها محرومة من حضن العائلة وبصيرة التعليم، بل إنها محرومة من الحصول على أبسط حقوقها الطبيعية في العلاج والراحة والشعور بالدفء والأمان. عاشت شيماء في منزل العائلة الثرية في جنوب ولاية كاليفورنيا الأمريكية حيث كانت تنام في الجراج وتغسل ملابسها القديمة في دلو مهترئ، وفي ظل غياب التعليم والرعاية الصحية ذاقت شيماء مرارة المرض والجهل والظلم المستمر بلا هوادة. كانت شيماء لا تعرف اللغة الإنجليزية على الإطلاق، ولا تستعمل من الكلمات العربية التي تعرفها بحكم أنها لغتها الأم سوى كلمات قليلة، تستخدمها عند الطلب مثل"أمرك يا سيدتي، سأفعل يا سيدي، سأنفذ في الحال". استمرت شيماء في ذلك النمط المهين من الحياة، تلبي ما تأمرها به العائلة الثرية، وتتجرع سموم الهوان والذل والاستعباد على أيديهم،إلى أن فوجئت في يوم من الأيام بقوات الشرطة ورجال إدارة الجوازات والهجرة يهاجمون المنزل ويحتجزون الجميع بناء على بلاغ من شخص مجهول أخبرهم بوجود طفلة في المنزل، تقوم بكل الأعمال المنزلية الشاقة ولا تتلقى التعليم المعتاد،ولا تذهب مطلقًا إلى المدرسة. وبعد صراع قانوني عنيف بين شيماء ورجال الهجرة والجمارك من ناحية وبين العائلة ومستشاريها القانونيين من ناحية أخرى، اعترف السيد "عبد الناصر عيد يوسف إبراهيم" وزوجته في ذلك الوقت السيدة "أمل أحمد عويس عبد المطلب" بالتهم الموجهة إليهما المتعلقة بالاستغلال وعمالة الأطفال والاتجار بالبشر، وحُكم عليهما بالسجن وبدفع تعويض مالي كبير لشيماء. ولكن قصة شيماء لم تنتهِ فصولها عند هذا الحد، فقد قرر المسؤولون في مركز الخدمة الاجتماعية وإدارة الجمارك والهجرة، ألا تعود شيماء إلى عائلتها الحقيقية مرة أخرى خشية أن يعيدوا بيعها لعائلة ثرية جديدة، أو يقدموها لمصير أشد سوءًا. وذلك بناء على عدة اتصالات دارت بينهم وبين والد ووالدة شيماء الحقيقيين،حتى اطمأنوا لقرارهم ووافقت شيماء على هذا القرار. خاضت شيماء رحلة طويلة بين عائلات التبني ومراكز الخدمة الاجتماعية، غيرت في تلك الرحلة اسمها ليصبح "شيماء هال"، وتلقت تعليمًا منتظمًا في سن متأخرة، وتحملت معاناة كبيرة حتى تستطيع القراءة والكتابة والنطق باللغة الإنجليزية ولكنها نجحت في النهاية في الحصول على شهادة التعليم الأساسي، وطورت مهاراتها الاجتماعية والنفسية إلى حد كبير، واستطاعت الحصول على وظيفة في سلسلة محلات فاخرة. قررت شيماء في منعطف جيد من حياتها،أن تُلقي محاضرات توعوية للمهتمين بعمالة الأطفال والاتجار بالبشر كجزء من الدور الإيجابي الذي اختارته لنفسها في خدمة مجتمعها الجديد وقضيتها التي فجرت امام العالم كل المعاناة التي مرت بها. كما استعانت في كتابة مذكراتها بالكاتبة "ليزا ويسوكي" صاحبة الخبرة الطويلة في الكتابة والتأليف في مجالات مختلفة أبرزها رياضة الخيول، وأصدرتها في كتاب بعنوان " Hidden Girl: The True Story of a Modern-Day Child Slave" الذي أتصورُ قيام "ليزا" بتقديم كثير من المساعدات في جمعه وتحريره،حتى تنجح شيماء في إطلاق جميع ما بداخلها من شحنات إنسانية ونفسية بشكل منتظم على الورق، وتنجح في إنعاش ذاكرتها المشوشة التي اعتصرها الألم وسحقتها مضادات الاكتئاب وغيرها من العلاجات النفسية التي تلقتها لتتخطى بشاعة ما مرت به خلال رحلتها. نجحت شيماء في النهاية-عبر طريق طويل وشاق- في ترك بصمة حقيقية وتقديم شهادة صادقة، عبرت من خلالها عن معاناة جسيمة وجريمة كبرى ما زال الجنس البشري يرتكبها في حق أبنائه. يذكر أن ميسرة صلاح الدين شاعر وكاتب مسرحي ومترجم، صدر له العديد من الدواوين والمسرحيات الشعرية والغنائية، وحصل على عدد من الجوائز والتكريمات المحلية والعربية، كما شارك في العديد من المهرجانات والفعاليات الثقافية والفنية كمؤتمر الأدب السنوي الذي تنظمه جامعة كليفلاند الأمريكية، ومهرجان دبا الحصن للمسرح الثنائي بالشارقة، ومعرض أبو ظبي الدولي للكتاب، ومعرض القاهرة الدولي للكتاب وغيرها، ترجمت بعض من قصائده للغة الإنجليزية والإيطالية والإسبانية، وقدم العديد من نصوصه المسرحية على خشبة المسرح، له إسهامات متنوعة في مجال الترجمة حيث ترجم عددا من الأعمال الأدبية الهامة، منها رواية "شوجي بين" الفائزة بجائزة البوكر العالمية للكاتب الأسكوتلاندي دوجلاس ستيوارت و"رسائل ستيفان زفايج"، ورواية "الناقوس الزجاجي" للشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث.