المعركة الدائرة على صفحات الجرائد، والمجلات ومواقع التواصل الاجتماعى، حول انسحاب أو عدم انسحاب الوفود المصرية المشاركة فى الدورة 57 للجنة المرأة، فى هيئة الأممالمتحدة، التى أنهت أعمالها فى نيويورك قبل أيام، وكان موضوعها «العنف ضد النساء» أثناء إلقاء مساعدة رئيس الجمهورية الدكتورة «باكينام الشرقاوى» لكلمة مصر أمام هذا المحفل الدولى الذى شاركت فى أعماله 180 دولة من الدول الأعضاء فى الهيئة الدولية، فضلا عن عدد من منظمات المجتمع المدنى العربية والدولية، المعنية بشئون المرأة، ليست هى المشكلة، ذلك أن المشكلة أبعد مدى من الانسحاب أو عدم الانسحاب، إذ إنها تعكس مجددا الطريقة العشوائية التى تدير بها رئاسة الجمهورية شئون البلاد فى شتى المجالات. فإسناد رئاسة الوفد المصرى فى هذه الدورة إلى الدكتورة «باكينام الشرقاوى» وهى أستاذة للعلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، لمجرد أنها مساعد موثوق به لرئيس الجمهورية، هو المشكلة فى ذاتها، التى تعيد إلى الأذهان المفاضلة بين أهل الثقة، وأهل الخبرة التى كلفت مصر أثمانا فادحة، من تقدمها وأمنها واستقرارها خلال أكثر من ستين عاما. فالدكتورة «باكينام» قد تكون أستاذة بارعة فى العلوم السياسية، لاسيما أن تخصصها هو فى النظم السياسية المقارنة، وهى مدير سابق لمركز الدراسات وحوار الحضارات بنفس الكلية ، قبل أن تتولى موقعها الحالى كمساعد لرئيس الجمهورية فى أغسطس من العام الماضى، لكن المؤكد أنها ليس لها دراية بملف المرأة المصرية، ومشاكلها، كما أن مساعدة الرئيس تملك من المعرفة والذكاء ما يمكنها أن تدرك، أن هذا الملف هو محل خلاف بين معظم مؤسسات المجتمع الحزبية والأهلية والنقابية وبين الرؤية التى يتبناها النظام الذى تمثله، وكان الأولى أن ترفض هى نفسها هذا التكليف برئاسة الوفد المصرى إلى هذه الدورة، وأن تنصح الرئيس بذلك،كى نتجنب نقل هذا الخلاف إلى موائد الحوار الدولية، كما أن قول الدكتورة «باكينام» إن رئاستها للوفد قد رفع درجة التمثيل إلى مؤسسة الرئاسة، بما يبرز اهتمام الدولة بالمرأة، مردود عليه، بان الجهة الرسمية المعنية بهذا الملف هى المجلس القومى للمرأة على امتداد أكثر من عقد، وهو بالمناسبة مؤسسة شبه مستقلة تتبع رئاسة الجمهورية، ولديه من الدراسات والوثائق وقواعد المعلومات عن أحوال المرأة المصرية، ما يمنح حديثه كثيرا من المصداقية، والمثل الشعبى الحكيم يقول: «اعطى العيش لخبازه ولو أكل نصفه»، ولأن الحكمة غائبة عن كثير من المواقع، والمصالح العليا للوطن تداس بالأحذية، وتدهس بالجنازير، ولأن مؤسسة الرئاسة «بتلهط» و«تحِفّ» ولا تريد لأحد أن يشاركها «أكل العيش» فقد جرى ما جرى، تراجع وفد المجلس القومى للمرأة برئاسة السفيرة «ميرفت التلاوى» إلى مقاعد جانبية، ليتيح الفرصة للدكتورة «باكينام» كى تتصدر المشهد وهى تلقى كلمة مصر، فاندلعت المعارك الصحفية والإليكترونية والفضائية، حول مدى ملاءمة انسحاب المجلس القومى من الجلسة وقد جرى تنسيق بينه وبين الرئاسة حول رئاسة الوفد المصرى قبل سفره، على الرغم من أن المجلس القومى للمرأة قد كذب هذا الانسحاب فى بيان له كما نفته رئيسة المجلس السفيرة «ميرفت التلاوى» فى مداخلات تليفزيونية، وهو النفى الذى أكدته مساعدة الرئيس الدكتورة «باكينام الشرقاوى» بنفسها ليبقى جوهر المشكلة فى مضمون الخطاب الذى ألقته مساعدة الرئيس للشئون السياسية أمام ممثلى دول العالم، والذى انطوى على كثير من المغالطات، كان أبرزها القول بأن دستور مصر 2012 جاء ليؤكد على حقوق المرأة، واعتبارها مواطنا كامل الأهلية، مع أن ربع أعضاء الجمعية التأسيسية لوضع الدستور قد انسحبوا من عضويتها اعتراضا على تهميش حقوق المرأة فى مواده، والسماح فيه بعمالة الأطفال، وبزواج القاصرات، وبنوده الغامضة التى تسمح بالمتاجرة بالبشر، والعالم كله وفى القلب منه القابعون فى البيت الأبيض يعرف أن جوهر الأزمة السياسية الراهنة فى مصر هو تمرير دستور غير توافقى جرى تفصيله على مقاس جماعة الاخوان المسلمين، وحلفائهم من التيار الإسلامى ويمهد لدولة دينية. وقد رفضت الدكتورة «باكينام» الاستجابة لمطلب أعضاء المجلس القومى للمرأة بتجاهل الإشارة فى خطابها إلى هذا الدستور، كما لعلها قد نسيت أن مجلس الشورى قبل أيام من إلقاء خطابها قد رفض تحت ضغط من التيار السلفى وضع المرأة فى الثلث الأول من القوائم فى قانون الانتخابات الجديد، بزعم أن تميزها ضرب لمبدأ المساواة. المغالطة الاخرى الواردة فى الخطاب هى القول: «إن مصر الديمقراطية ما بعد الثورة، تقطع على نفسها عهدا بالحفاظ على مكتسبات المرأة التى حققتها على مدار تاريخ طويل من النضال، والوقوف فى وجه أية محاولات للنكوص عن مسيرة نهضتها» مع أن وضع المرأة فى مصر آخذ فى التدهور منذ اندلاع الثورة، ليس فحسب على مستوى تصاعد العنف اللفظى والبدنى ضدها، بل أيضا على المستوى التشريعى، حيث ناصب البرلمان المنحل كل القوانين التى أنصفت المرأة وصدرت فى عهد النظام السابق، مثل قوانين الخلع والطفل ومحاكم الأسرة وحظر ختان الإناث - العداء، ويقود التيار الدينى الحاكم المعركة التشريعية والقضائية من أجل الغائها، انطلاقا من رؤيته الدونية للمرأة، التى تؤمن بمبدأ «لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» لكنها تتخفى وراء قناع ثورى يزعم أن هذه القوانين والمكتسبات فاسدة لأنها قوانين سوزان مبارك! لا يمكن الحديث عن حقوق المرأة ومكتسباتها، ومكافحة العنف ضدها، وخطاب الرئاسة المصرية أمام المجتمع الدولى، يتجاهل القيم الانسانية المشتركة، التى تعاهدت البشرية على التمسك بها وصاغتها فى الإعلان العالمى لحقوق الانسان، وهو يدعو عند رسم السياسيات الدولية لمواجهة العنف ضد النساء، إلى الموازنة بين ما يسميه «دائرة المشترك الإنسانى، وبين دائرة الخصوصيات الثقافية والاجتماعية للدول والشعوب» تلك الخصوصية التى تستند إلى مرجعية دينية، قد طالما استخدمت فى العالمين العربى والاسلامى، لقمع النساء وتجريدهن من حقوقهن، وتهميش أدوارهن فى الحياة العامة والخاصة، وتنص المادتان الأولى والثانية من الإعلان العالمى لحقوق الانسان، الذى شارك فى كتابته بعد الحرب العالمية الثانية مسلمون من المصريين والعرب، على أن «كل البشر يولدون أحرارا ،ومتساوين فى الكرامة والحقوق، ويتميزون بعقول وضمائر، وواجبهم التعامل مع بعضهم البعض بروح الأخوة، وكل فرد يتمتع بكافة الحقوق السياسية والاجتماعية المدنية والحريات المنصوص عليها فى هذا الاعلان» دون تمييز من أى نوع مثل العرق، واللون، والجنس، واللغة والدين والمعتقد السياسى، أو غيره من الانتماء الوطنى أو الاجتماعى أو الطبقى أو الطائفى، ولم يجد المسلمون الذين ساهموا فى صياغة هذه المثل والمبادئ الانسانية العليا أى تناقض بينها وبين الخصوصية الدينية والثقافية للعرب والمسلمين، كما فعلت الدكتورة «باكينام» التى انحازت فى خطابها أمام الهيئة الدولية إلى خطاب السلطة، مع أنه يعتدى على حقوقها كامرأة! ويا دكتورة «باكينام» انصحى الرئاسة أن تعطى العيش لخبازه، بدلا من أن تشاركيها أخطاءها!