لقد رغب الإسلام في الصدق وحث عليه في مجالات الحياة كلها واهتم به اهتماماً كبيراً؛ ولأهمية الصدق والعناية به في شئون الحياة كلها تضافرت نصوص القرآن والسنة في الحث عليه والتحلي به؛ فقد ورد لفظ (الصدق) في القرآن الكريم في ثلاثة وخمسين ومائة (153) موضعاً ؛ والأنبياء عليهم السلام كلهم موصوفون بالصدق، قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم: 41]. وقال سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا}[مريم: 56]. وَوُصِفَ يوسف عليه السلام بالصدق حينما جاءه الرجل يستفتيه فقال: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} [يوسف: 46]. وأمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80]، وقد كان- صلى الله عليه وسلم - مشهوراً بالصدق قبل البعثة وبعدها؛ فكان يلقب قبل البعثة بالصادق الأمين؛ وبعد البعثة المباركة كان تصديق الوحي له مدعاة لأن يطلق عليه أصحابه «الصّادق المصدوق». بهذا بدأ الدكتور ابراهيم البيومى امام وخطيب مسجد السيدة زينب حديثه حول الصدق واثره في صلاح الفرد واضاف: ولأهمية الصدق والحث عليه أمر الله المؤمنين أن يكونوا دوماً في زمرة الصادقين؛ فقال: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}.[التوبة: 119] . فالصدق طمأنينة للقلب ؛ وفي ذلك يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ ". فالصدق طمأنينة ؛ أي: يطمئن إليه القلب ويسكن، والكذب ريبة؛ أي: يقلق القلب ويضطرب . وفي مقابل ترغيب الإسلام في الصدق؛ فقد رهب الإسلام من الكذب وشنع القرآن على كل من كذب وخلف وعده وخان؛ بل عده الرسول صلى الله عليه وسلم من خصال المنافقين؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ؛ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ؛ وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ."(متفق عليه). بل إن الكذب ينافي الإيمان؛ لأن الكذب والإيمان لا يجتمعان في قلب رجل واحد؛ فَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ سَلِيمٍ؛ أَنَّهُ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَانًا؟ قَالَ: «نعم» . فَقيل: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَخِيلًا؟ قَالَ: «نَعَمْ» . فَقِيلَ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ كَذَّابًا؟ قَالَ: «لَا» . ثم تلا قوله تعالى: { إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ }. فالله خلق اللسان آلة للنطق ؛ وعلى الإنسان أن يستخدمها في الصدق والخير والذكر ؛ وإلا فالصمت أولى وأنجى ؛ يقول أبو حاتم: " إنَّ الله جلَّ وعلا فضَّل اللسان على سائر الجوارح، ورفع درجته، وأبان فضيلته، بأن أنطقه من بين سائر الجوارح بتوحيده، فلا يجب للعاقل أن يعود آلة خلقها الله للنطق بتوحيده بالكذب، بل يجب عليه المداومة برعايته بلزوم الصدق، وما يعود عليه نفعه في داريه؛ لأنَّ اللسان يقتضي ما عُوِّد؛ إن صدقًا فصدقًا، وإن كذبًا فكذبًا ". ( روضة العقلاء ). إن صلاح اللسان صلاح لأعضاء الجسد كلها؛ وفساده فساد لأعضاء الجسد كلها؛ فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرفُوعاً قَالَ:"إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ؛ فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا؛ وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا"[ الترمذي بسند حسن ]. وقد ضمن الرسول صلى الله عليه وسلم الجنة لمن حفظ لسانه من خبيث الكلام؛ فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ؛ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ؛ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ؛ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ" (البخاري). وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمْ الْجَنَّةَ: اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ؛ وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ؛ وَأَدُّوا إِذَا اؤْتُمِنْتُمْ؛ وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ؛ وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ؛ وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ". (أحمد والبيهقي والحاكم وصححه)، وهكذا رغب الإسلام في الصدق ؛ ورهب من الكذب كما جاء في القرآن والسنة . وأضاف الدكتور ابراهيم البيومى امام وخطيب مسجد السيدة زينب قائلا: كثير من الناس يعتقد أن الصدق مقتصر على مطابقة الخبر للواقع؛ أي كذب اللسان أن يُحدِّثَ بخلاف الواقع؛ وهذا أحد أنواع ومجالات الصدق؛ وهناك أنواع ومجالات أخرى للصدق تتمثل فيما يلي: أولاً: صدق اللسان: وهو الصدق في الأقوال؛ وهو أشهر أنواع الصدق وأظهرها؛ وصدق اللسان لا يكون إلا في الإخبار، وحقٌّ على كلِّ عبد أن يحفظ ألفاظه، فلا يتكلم إلا بالصدق؛ و صدق النية والإرادة: ويرجع ذلك إلى الإخلاص، وهو أن لا يكون له باعث في الحركات والسكنات إلا الله تعالى و صدق الوفاء بالوعد والعهد: فالصدق في الوفاء بالعهد من صفات الأنبياء والمرسلين؛ قال تعالى متحدِّثًا عن سيدنا إسماعيل – عليه السلام -:{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا } [مريم: 54]. فالإنسان إذا عاهد عهداً مع الله أو مع الناس ؛ لابد أن يصدق في عهده ووعده ؛ لذلك أثني الله تعالى على المؤمنين بقوله: { مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ }. وفي مقابل ذلك تجد خلف الوعد والعهد سمة وعلامة من صفات المنافقين لكذبهم في خلف العهد مع الله تعالى؛ قال تعالى: { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ}.( التوبة:75 - 77 ). و الصدق في مقامات الدين: وهو أعلى الدرجات وأعزها، ومن أمثلته: الصدق في الخوف والرجاء والتعظيم والزهد والرضا والتوكل وغيرها من الأمور. و الصدق في التجارة والمعاملات: فالصدق في المعاملات يورث الثقة بين المتعاملين؛ كما أنه سبيل إلى بركة البيع والشراء؛ كثير منا يقول: إن الصدق من الصفات الحميدة ولكن كيف اتحلى به ؟! وكيف اكتسبه ؟! وما هي الوسائل المعينة عليه ؟! لأن الصدق شديد على النفس؛ ولهذا قال ابن القيم: " حمل الصدق كحمل الجبال الرواسي، لا يطيقه إلا أصحاب العزائم، فهم يتقلبون تحته تقلب الحامل بحمله الثقيل، والرياء والكذب خفيف كالريشة، لا يجد له صاحبه ثقلًا البتة، فهو حامل له في أي موضع اتفق، بلا تعب ولا مشقة ولا كلفة، فهو لا يتقلب تحت حمله ولا يجد ثقله". وإليكم بعض وسائل اكتساب الصدق والتي تتمثل فيما يلي: مراقبة الله تعالى: و الحياء: لأن الحياء يحجب صاحبه عن كل ما هو مستقبح شرعًا وعرفًا وذوقًا و صحبة الصادقين: فقد أمر الله المؤمنين أن يكونوا مع أهل الصدق فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ }[ و إشاعة الصدق في الأسرة: فالإسلام يوصي أن تغرس فضيلة الصدق في نفوس الأطفال، حتى يشبوا عليها، وقد ألفوها في أقوالهم وأحوالهم كلها. و هناك ثمرات وفوائد عديدة للصدق يعود أثرها على الفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة وتتمثل فيما يلي: منها: محبة الناس للصادق ورواج بضاعته: فالتاجر الصادق الأمين يُعتبر مكسباً مهمّاً لا يُمكن أن يُعوَّض بالنسبة للمشترين والتجار الآخرين؛ فالتزام التاجر بالصدق يكفل له رواج بضاعته، وثقة الناس فيه؛ وإقبالهم على الشراء منه، حتى لو لم تكن بضاعته ذات كفاءة عالية في الكثير من الأحيان، أو حتى لو كان سعره أعلى من سعر نظرائه من التجار. ومنها: حصول البركة في البيع والشراء: " فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما".(البخاري). " ومنها: طمأنينة النفس وراحة الضمير: لِتَخَلُّصِه من المُكَدِّرات في تعامله مع الآخرينومنها: أن الصادق يفوز بسعادة العاجل والآجل في الدارين الدنيا والآخرة: ومنها: الفوز بالجنة ومرافقة النبيين والشهداء: قال تعالى: { هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ؛ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ؛ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا؛ وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ؛ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ؛ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا".( متفق عليه واللفظ لمسلم). ومنها: قبول الأعمال: فالصادق في تجاراته وتعاملاته يقبل منه عمله؛ بخلاف الكذاب إن من ينظر إلى واقعنا المعاصر يجد أن الناس استهانوا بخطورة اللسان وخروج الكلمة؛ ويظنون أنهم لن يحاسبوا على كل ما يخرج؛ ويكثرون من النكت والضحك وتقسيم الكذب إلى أبيض وأسود وغير ذلك . أحبتي في الله: ومن الأمور التي أحببت أن أنبه أحبابي وآبائي وإخواني وأبنائي عليها؛ أن كثيراً من الناس يعتقد أن في الإسلام كذباً أبيضاً وآخر أسوداً ؛ أي كذبة بيضة وكذبة سودة؛ وهذا ليس من الشرع في شيء؛ فالكذب كله محرم؛ صغيره وكبيره؛ قليله وكثيره؛ إلا ما رخص فيه الشرع الحكيم من أجل المصلحة وذلك في ثلاث حالات: فعن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها قالت:" رخَّصَ النبِيُّ مِنَ الكَذبِ في ثلاثٍ: في الحربِ، و في الإصلاحِ بين الناسِ، و قولِ الرجلِ لامرأتِهِ. وفي روايةٍ: وحَدِيثِ الرجلِ امرأتَهُ، وحَدِيثِ المرأَةِ زوجَها"(أحمد ومسلم).