مازالت الفرصة سانحة لإنقاذ البلاد من شبح انشطار اجتماعي قد يعيدنا إلى عصر ما قبل «مينا» موحد القطرين، صحيح نحن دخلنا الوقت الضائع أو «القاتل» ولم يعد أمامنا سوى الجولة الثانية للاستفتاء على مسودة الدستور ، ولكن يمكن تدارك الموقف من مصير مجهول لا نأمن عواقبه. وإذا كانت «نعم» ستحقق فوزا مرحليا للاخوان والسلفيين في معركة الدستور، أتصور أن «لا» قد تكتب انتصارا تاريخيا لشعب حضاري وأمة مؤثرة بحجم مصر، وقد يذكر التاريخ أن الرئيس «مرسي» أنقذ مصر الحديثة إذا قال «لا» لجماعته - ولو لمرة واحدة - وقرر إيقاف استكمال استفتاء مرفوض شعبيا وتحول إلى «مفرخة» للعنصرية والعنف الاجتماعي، ولنا في تجربة الشعب الأمريكي درسا، حيث لا يقف هذا الشعب طويلا أمام تعاقب الرؤساء على البيت الأبيض بقدر انحنائه تقديرا لامرأة «خياطة» قالت «لا» للعنصرية والتفرقة الاجتماعية. وعلى الشعب المصري أيضا ألا يستهين بالمشاركة في استفتاء يحدد خطواته المستقبلية، والتاريخ ملىء بمواقف بسطاء غيروا مسار بلدانهم ودخلوا التاريخ كعظماء بسبب موقف عظيم اتخذوه في حياتهم كان سببا في إصلاح حال البشر. ففي عام 1955 استقلت الخياطة البسيطة روزا باركس حافلة أمريكية لتعود إلى البيت. وفي الحافلة، وجدت مقعدا فارغا فجلست فيه وبعد قليل دخل ركاب آخرون ووقف أمامها رجل متوقع أن تقوم هي لتعطيه مكانها، عكس الأعراف في كل مكان في العالم، حيث أن الرجل هو الذي يقوم عادة للمرأة. ولكن في هذه الحالة كان الرجل يتوقع العكس، لسبب بسيط هو أنه أبيض البشرة بينما روزا باركس سوداء، وكان قانون الخمسينيات في هذه المقاطعة وغيرها من المقاطعات الجنوبية ينص على أن السود يتخلون عن مقاعدهم للبيض، وأن عليهم الدفع من الباب الأمامي ثم التراجع والدخول إلى الحافلة من الباب الخلفي. وكثيرا ما كان سائقو الحافلات يغلقون الباب ويتركون الركاب السود على حافة الطريق، وفي هذا المأزق قررت باركس أن تتخذ موقفا عظيما يكون سببا في رفع معاناة الملايين من السود، وهو ألا تقوم للرجل الأبيض. فقط أن ترفض الخضوع لهذا القانون العنصري الجائر، فهاج الركاب وتوقف سائق الحافلة، ولكن باركس رفضت التحرك من مقعدها وأصرت على العصيان، وأخذت تنفذه بهدوء ومدنية. بعد دقائق وصلت الشرطة وألقت القبض عليها لخرقها قانون الولاية، لكنها كانت مستعدة لكل شيء. وفي كتابها (القوة الهادئة) Quiet Strength الذي صدر في عام 1994، كتبت باركس: ظللت أفكر بأمي وبأجدادي، وكيف كانوا أقوياء، وكنت أدرك إمكانيات الإهانة، ولكني أيضا شعرت أني أعطيت فرصة لعمل شيء أتوقعه من الآخرين . وبعد هذا العصيان الذي قامت به روزا باركس تغير تاريخ أمريكا، لأن محاكمتها استمرت 381 يوما وانتشرت أخبار القضية في كل مكان، وقاطع السود المواصلات وصعود الحافلات لمدة سنة، وخلالها بدأت حركة الحريات المدنية للسود. وفي النهاية أقرت المحكمة بمخالفة قانون إعطاء الأولوية للركاب البيض للدستور الأمريكي. ولكن جاء هذا بعد أن اشتعل البلد، ودخل مرحلة اضطر فيها أن يراجع القوانين التي تعامل السود كمواطنين أدنى. روزا باركس لم تتخيل أن الحافلة التي كانت تجلس فيها ستتحول إلى رمز تفخر به أمريكا، حيث تضيف في كتابها إنها تريد أن يعرف القراء أن إيمانها بالله وقوتها الروحية هي التي جعلتها تعيش وتتصرف بهذا الشكل، وأنها لم تكن مركز الحدث، بل كانت جزءا من الحركة ضد العنصرية والظلم. من هنا تأتي أهمية عدالة الدساتير المنظمة لحياة وتحركات الشعوب، فالدساتير ليست مطلبا ترفيا، بل هي آلية تحافظ على حقوق الأقلية وتصونها ضد ديكتاتورية وعنصرية الأغلبية ، فهذه امرأة واحدة بموقف واحد غيرت مجرى التاريخ. ولذا يجب ألا نستخف بالقوة العجيبة الكامنة في الإنسان، والتي تخرج وتنير العالم عندما يقرر الإنسان أن ينتصر أخلاقيا حتى قبل أن تبدأ المواجهة. أستحضر هذا الموقف وأنا أشاهد حالة «العناد السياسي» والعنف الطائفي التي تمر بها مصر، والتي قسمت الشعب إلى فصائل متناحرة بسبب دستور كان الأولى به أن يوحدنا لا أن يمزقنا، وبعيدا عن الجدل السياسي الدائر والعنف المصاحب له وتمسك كل طرف بموقفه، تشير جميع المقدمات إلى أننا على حافة حرب أهلية مرهونة بإقرار دستور لا يحظى بالتوافق الوطني. لقد ماتت الخياطة الأمريكية وعلى صدرها أعلى الأوسمة؛ حيث حصلت على الوسام الرئاسي للحرية عام 1996م، والوسام الذهبي للكونجرس عام 1999م، وهو أعلى تكريم مدني في البلاد ، وفوق هذا وسام الحرية الذي أهدته لكل بني جنسها عبر كلمة (لا)..أشهر (لا) في تاريخ أمريكا، ومن ثم علينا نحن المصريين حكاما ومحكومين ألا نستخف بهذه الكلمة الصغيرة إذا أردنا أن نصنع مجدا جديدا يشهد به العالم.. فقط تنقصنا الشجاعة لتصحيح مسارنا وإنقاذ وحدتنا.