بانسحاب القوي المدنية من الجمعية التأسيسية، وكذلك بانسحاب ممثلي الكنيسة المصرية، يكون هناك أكثر من ربع أعضاء الجمعية قد ابتعدوا عن المشاركة في مسودة الدستور، وتركوا الساحة أمام الخمسة والسبعين في المائة الباقية والتي تمثل التيارات الاسلامية المختلفة الذين اتفقت وجهة نظرهم علي إصدار دستور مشوه لا يعبر عن الشعب المصري ولا يتفق مع روح ثورة 25 يناير المجيدة.. وبانسحاب القوي المدنية التي تمثل القوي الليبرالية تكون أعمال الجمعية التأسيسية قد تعطلت وأي انعقاد لها غير جائز قانونياً، لأن معني ذلك أن هناك تياراً واحداً تحكم في وضع مسودة الدستور، وهو ما لا يجوز ولا يتفق أبداً مع أية مبادئ ديمقراطية!! وغير جائز أيضاً أن يكون رد التيار الواحد المسيطر علي التأسيسية أنه سيقوم بتصعيد الاحتياطيين للاستمرار قدماً في مشروع الدستور، فالمنطق والعقل يرفضان تماماً أولاً أن يحل الاحتياطي بدلاً من كل القوي المدنية المنسحبة.. وكان الأجدر بالمستشار حسام الغرياني رئيس الجمعية أن يستمع إلي وجهة نظر القوي المنسحبة والاطلاع علي كل المقترحات التي قدمتها القوي المدنية ومناقشتها، بدلاً من التلويح بتصعيد الاحتياطيين.. وكأن المستشار الغرياني كان «يتلكك» للقوي المدنية التي ترفض انفراد جماعة أو فصيل بالهيمنة علي وضع مسودة الدستور، وجاءت له الفرصة علي «الطبطاب» للاستجابة لهذا الفصيل أو تلك الجماعة. الهدف الأساسي من وضع الدستور أن يكون معبراً عن جموع وأطياف الأمة، لا أن ينفرد بوضعه جماعة سياسية أو فصيل وطني، والجمعية التأسيسية تتعامل مع مسودة الدستور، وكأنها تضمن لنفسها أن تستمر في الحكم طوال العمر، فلا يجوز أن يكون دستور مصر معبراً عن حزب سياسي، قد يكون اليوم في الحكم وغداً في صفوف المعارضة.. فالدستور ثابت والأحزاب تتغير في الحكم.. البقاء للدستور والزوال للأحزاب والاشخاص.. ولذلك يجب أن يكون الدستور هو الملاذ الوحيد الذي يلجأ إليه الجميع بلا استثناء.. فلماذا تصر الجمعية التأسيسية علي أن تصدر دستوراً أعرج أو مشوهاً لا يعبر عن طموحات الشعب المصري، ويضمن له الحقوق الديمقراطية كاملة دون نقصان. هذا المنطق هو الذي جعل ممثلي الكنيسة المصرية ينسحبون مع انسحاب القوي المدنية، فالمنسحبون يريدون دستوراً قوياً لا عوار فيه ولا تشويه يعيبه، والغالبية من أعضاء الجمعية التأسيسية يصرون علي موقف يتعارض مع أبسط قواعد الديمقراطية .. فالفرقاء السياسيون يجب أن يوحدهم الدستور لأنه سيكون بمثابة «الكعبة» التي يحج إليها الجميع أما إذا كان الدستور يعبر عن فصيل بعينه أو جماعة بذاتها، فهذا يعني أن كل جماعة أو فصيل يصعد للحكم سيقوم بإعداد دستور علي هواه أو مزاجه.. فهل هذا يليق مع ثورة المصريين الذين صبروا عقوداً طويلة علي نظام حكم كان يقوم بتفصيل كل شيء علي مزاجه وعلي رغبته، وبما يخدم مصالحه وتحقيق منافعه.. المصريون زهقوا من سياسة التمييز والمصالح الخاصة التي أضرتهم كثيراً.. المنسحبون من التأسيسية لا يختلفون أبداً علي أية مواد فيها الصالح العام للوطن والمواطن، وكل اعتراضهم علي سياسة الهيمنة المفروضة علي الجمعية التأسيسية، وكل ما يضر بمصلحة الشعب المصري الأصيل، والمنسحبون لا يرغبون في تحقيق مصالح شخصية لهم وإنما تسبقهم وطنيتهم في اتخاذ أي قرار يقدمون عليه، ويحركهم في ذلك دافع البحث عن مصلحة مصر والمواطن المصري الذي واجه القهر والظلم علي مدار عقود طويلة.. فكل المواد الخلافية التي اعترضت عليها القوي المدنية يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار وعدم اهتمام الجمعية التأسيسية بقرار انسحاب القوي المدنية يعني بطلان عمل الجمعية التأسيسية وما يصدر عنها من مسودة للدستور لاصابتها بشبهة هيمنة فصيل واحد عليها!! وإذا كنا مع سرعة إصدار الدستور، إلا أن ذلك لا يعني أبداً أن يصدر دستور مشوه لا يعبر عن مصر الثورة ويعمل ضد مصالح المواطن، ويؤصل للديكتاتورية ويقضي علي الديمقراطية الوليدة التي نأمل أن تكون هي المعبر الوحيد لمصر الحديثة والتي تقود إلي بر الأمان.