بعد عودة الرئيس الأمريكي أوباما إلى البيت الأبيض، فإنه سوف يسعى إلى استكمال ما بدأه، بصدد تعزيز وتقوية الوجود الأمريكي في جنوب شرقي آسيا. الغاية من هذه السياسة هي احتواء الصين، عن طريق تشجيع تكوين تحالف يضم الهند واليابان وإندونيسيا وكوريا الجنوبية والفلبين وفيتنام . هذا التحالف سوف يسمح للولايات المتحدة بأن تلعب دور قوة التوازن في المنطقة بين هذا التحالف، من جهة، وبين الصين من جهة أخرى . ولسوف يشبه دورها هذا في جنوب شرقي آسيا الدور الذي مارسته بريطانيا، لمراحل تاريخية في أوروبا والمنطقة العربية . وتعتقد إدارة أوباما أن مثل هذا التحالف سوف يضع قيوداً محكمة على حركة الصين في المنطقة، ويحد من توسيع نفوذها الآسيوي ومن ثم العالمي . إن تحقيق هذا التحالف ليس هيناً، إذ إن هناك مشكلات بين الدول المرشحة لعضويته، فهناك تنافس بين الفلبين وفيتنام على “سبارتلي”الملأى بالثروات الطبيعية، وهناك مشكلات تاريخية معلقة بين اليابان وكوريا الجنوبية، هذا فضلاً عن أن ذكريات الاحتلال الياباني لدول آسيا المجاورة لا تشجع على قيام تحالف يضمها مع هذه الدول . لذلك قد يبدأ هذا الحلف عن طريق تشكيل تحالف مصغر يضم إندونيسيا وفيتنام، وهناك مؤشرات إلى أن هذا التحالف في طريقه إلى الولادة فعلاً بين البلدين، وإذا ما تم ذلك فإنه سوف يشكل مفارقة غريبة، فإندونيسيا عمدت إلى تكوين رابطة دول جنوب شرقي آسيا خوفاً من الحرب الفيتنامية، ومن انتقال الشيوعية من بلاد هوشيه منه إلى بلاد سوهارتو . ولكن سوهارتو ذهب وكذلك هوشيه منه، وبين البلدين حافز مشترك إلى تكوين الحلف ألا وهو التخوف من الشقيق الأكبر الصيني . ولكن هل ينجح البلدان في توطيد التعاون بينهما إلى درجة اجتذاب الدول الأخرى المرشحة للانضمام إلى التحالف الموسع؟ وإذا ما تم تركيب مثل هذا الحلف، فما هو تأثيره في المنطقة العربية؟ جواباً عن السؤال الأول، فإنه يمكن القول إن تجارب توازن القوى أفضى إلى حفظ السلام في فترات تاريخية، وفي بعض الأقاليم العالمية . ففي القرن التاسع عشر أمكن لمؤتمر أوروبا الذي تزعمه ميترنيخ المستشار النمساوي أن يحقق السلام لفترة طويلة في القارة الأوروبية . ولكن هذا المؤتمر أو الحلف الذي ضم روسيا وبروسيا وبريطانيا والنمسا، والذي خاض الحرب ضد نابليون، ما لبث أن اجتذب فرنسا بعد القضاء على الإمبراطور الفرنسي . أي أن هذا الحلف لم يعد موجهاً ضد أي قوة أوروبية، بل كان أداة للتنسيق بينها بقصد ترسيخ الأنظمة المحافظة في القارة، بعد أن اهتزت تحت وطأة فتوحات نابليون والثورات القومية والديمقراطية التي قامت في منتصف القرن . من هذه الناحية فإن الحلف الذي تعتزم إدارة أوباما إطلاقه في جنوب شرقي آسيا يختلف اختلافاً رئيساً عن مؤتمر فيينا . ثم إن توازن القوى الذي اكتسب طابع تعاون القوى في وجه الثورات الأوروبية، ما لبث أن اختل بعد زوال شبح نابليون والثورات، واشتد التنافس بين القوى الأوروبية في الاستحواذ على المستعمرات، وعلى المواد الخام والأسواق في أراضي ما وراء البحار . وفي ظل المتغيرات الدولية يتخذ توازن القوى معاني مختلفة ومتنوعة تطابق هذه المتغيرات والأوضاع المستجدة . فهناك عادة توازن قوى مهيمن ينشأ نتيجة تفاهم بين قوتين أو أكثر، كما كان الأمر بين البرتغال وإسبانيا خلال القرنين السابع والثامن عشر، أو كما كان الأمر إبان الحرب الباردة . وهناك توازن قوى تابع كما كان الأمر في بعض مناطق أمريكا اللاتينية . وهناك توازن قوى عفوي يقابله توازن قوى مدبر ينفذ عن قصد . إن توازن القوى الأخير هو ما تسعى إدارة أوباما إلى تحقيقه في جنوب شرقي آسيا، وهذا لن يوفر على المنطقة ولا على العالم الحروب وسباق التسلح، وحرباً باردة جديدة تكون كلفتها باهظة على كل صعيد . وينتقد المؤرخ البريطاني الشهير كار هذا النوع من توازن القوى بقوله، إنه إذا كان المقصود منه هو الحيلولة دون وقوع تغيير آن أوانه في النظام الدولي، فإنه يتحول إلى نهج غير مشروع، وإذا أدى إلى وقوع الحروب والصراعات المسلحة، فإن الذي هندس مثل هذا التوازن يكون مسؤولاً عن انفجارها وعن نتائجها، وتعد مسؤولية القوة الدولية التي رتبت هذا التوازن المدبر بغرض الحؤول دون صعود قوة معينة أكبر من مسؤولية القوة التي تستخدم العنف بقصد خرق هذا التوازن . إذا نشأت الحروب والصراعات نتيجة الحلف الاحتوائي الذي تقيمه واشنطن ضد الصين، فإنها لن تقتصر على جنوب شرقي آسيا، بل سوف تتطاير شظاياها لكي تصل إلى المنطقة العربية . ففي هذه الحالة سوف تعمل بكين على إبقاء طرق الحصول على ما تحتاج إليه من المواد الخام، وخاصة النفط مفتوحة وآمنة، وسوف تعمل الولاياتالمتحدة على إغلاق هذه الطرق، ومنع الصين من الحصول على ما تحتاج إليه لمواجهة حاجات السلم والحرب . هذا ما فعلته بريطانيا خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية في البحر المتوسط، وفي الأراضي المجاورة للمشتركين في القتال . عندها سوف تلتهب المنطقة العربية كما التهبت بالحروب والصراعات المسلحة خلال الحربين . إن مصلحة العرب تقضي بتحسّن العلاقات بين دول جنوب شرقي آسيا، وفي تطوير الصلات بينها وبين الدول العربية، أما الأحلاف العسكرية وتوازنات القوى المدبرة فقد خبرناها في المنطقة، فكلفتنا الرخيص والغالي، ومانزال ندفع كلفتها حتى اليوم . نقلا عن صحيفة الخليج