اللغة من أهم الخصائص المميزة لهوية الأمة، فهى وعاء ثقافتها ورصيد فكرها وتاريخها، لذلك توسدت اللغة دورها الخطير فى ترسيخ الانتماء القومى وإيقاظ الشعور الوطنى والوعى بالذات والأصالة. ولا يَخْفَى على أحد أن الإحساس الوطنى والشعور بالانتماء يلعب دورًا مؤثِّرًا فى الارتقاء باللغة، وقد اعتمدت العروبة على الدين الإسلامى أساسًا لها، وأسهم القرآن الكريم فى انطلاقتها الفكرية؛ لأن العلاقة بين العروبة والإسلام متداخلة ومتفاعلة يخدم كل منهما الآخر ويدعمه، لقد استوعبت الثقافة العربية الإسلامية كل الثقافات التى تعايشت معها، فصارت بذلك ثقافة العرب المسلمين منهم والنصارى واليهود، وهذا يعنى أن كل مسيحى عربي، هو متشبع بالثقافة الإسلامية ويؤكد ذلك «مكرم عبيد باشا» بكلمته المشهورة: «أنا مسيحى ديانة، مسلم ثقافة وحضارة»؛ لأن الإسلام هو أهم عناصر الهوية الثقافية العربية، وهذا يعنى أن الهوية ليست مجرد مصطلح دينى بقدر ما هى مصطلح ثقافي، يشير إلى أسلوب الحياة الذى يتضمن المعايير والقِيَم وطرائق التفكير والمعرفة والسلوك والأخلاق والمعتقدات. وهذا يعنى - أيضًا - أن العلاقة بين الهوية والثقافة الإسلامية يتعذَّر الفصل بينهما، فالثقافة هى التى تُحدِّد هوية الأمة وشخصيتها، وتدل عليها وتُميِّزها عن غيرها؛ لأنه لا تُوجَد هوية لا تستند إلى خلفية ثقافية، وكان للإسلام الأثر الفاعل فى تشكيل الهوية العربية والوحدة الإسلامية النابعة من اشتراك الناس فى ممارسة الطقوس والشعائر والمعامَلات والعبادات، وهى المرجع الأساسى لمنظومة القِيَم التى يؤمن بها المجتمع العربى المسلم، ذلك أن القيم قد تشكَّلت بناء على تعاليم الدين الإسلامى التى كان لها أبعد الأثر فى مُخْتلَف عناصر الحياة العربية(13). وبالإضافة لكون اللغة العربية أداة للنمو الروحى عند المسلمين؛ لكونها لغة العبادة والدعاء، فإنها - إلى جانب ذلك - لغة جميع المسلمين من كل جِنْسٍ وإقليم، وبها يتواصلون ويتعارفون؛ فالمحافظة عليها محافظة على وحدة المسلمين الثقافية، وهويتهم الدينية؛ ولهذا لما توقَّف نموها وانتشارها بسبب ضعف أهلها، توجَّه الأعاجم من المسلمين إلى لغاتهم الأصلية، وتفرَّقت – بالتالى - أُمَّة الإسلام شِيَعًا وأحزابًا، فى حين كان أكثر الذين خدموا العلوم والمعارف بأنواعها المختلفة من غير العرب(14). ومن هنا، فدعم اللغة العربية، وتأهيل مُتكلِّميها هو ضرورة حياتية وحضارية، ولا يمكن بحال مواجهة تحديات العولمة اللغوية ومخاطرها إلا بإيقاظ الوعى بتعزيز اللغة العربية فى وجودها الحى المتفاعل فى شتى جوانب الحياة العلمية والحضارية والاجتماعية حتى تستطيع أن تواجه الاختراق اللغوى والثقافى الذى يحاول اجتياح هويتنا فى كل لحظة. مُجْمَل القول إن: اللغة هى وعاء التراث والتاريخ، وأبرز جوانب الهوية، وكل لغة من اللغات تُمثِّل ثروة ثقافية بما تحمله من رؤية فلسفية وإدراك ومعرفة خاصة بالعالم. إن الاعتزاز باللغة ليس فقط مجرد اعتزاز باللغة فى ذاتها بقَدْرِ ما هو اعتزاز بالثقافة التى تُمثِّلها هذه اللغة، ونحن نقرأ فى العصر الحديث مثلًا أن من أكبر العوائق التى وقفت فى وجه اتفاقات السلام فى مقدونيا الاعتراف باللغة الألبانية لغة ثانية فى البلاد؛ فلماذا كل هذا الاختلاف والصراع حول مجرد لغة؟ إنه الصراع من أجل إثبات الهوية، لا من أجل مجرد اللغة، فالأمر أبعد من مجرد اللغة. يقول مصطفى صادق الرافعى فى «وحى القلم»: «إذا انقطع الشعب من نَسَبِ لغته انقطع من نَسَبِ ماضيه، وَرَجَعَت قَوْمِيَّتُهُ صورة محفوظة فى التاريخ، لا صُورَةً مُحَقَّقَةً فى وُجوده؛ فليس كاللغة نَسَبٌ للعاطفة والفكر؛ حتى إن أبناء الأب الواحد لو اختلفت ألسنتهم فنشأ منهم ناشئ على لغة، ونشأ الثانى على أخرى، والثالث على لغة ثالثة، لكانوا فى العاطفة كأبناء ثلاثة آباء».(15) معانٍ جديرة بالتدبُّر: - ضياع لغتك يعنى ضياع أهم الأُسُس المكوِّنة لهويتك وذاتك وصلتك بتراثك وتاريخك. - واستبدال لغة أخرى بلغتك يعنى رؤية العالم بعيون غريبة وعقلية مغايرة. فهل تستسلم؟!