طرحت الإساءة للإسلام، والاحتجاجات عليها، ومواقف الحكومات، غربية وعربية ومسلمة، أسئلة كبيرة وشائكة ينبغي على العالم الإسلامي أن يتعمق فيها ويستخلص العبر. فالإساءات قد تتكرر، كذلك الاحتجاجات، ما يستوجب ضبط النفس، لأن الانفعال والعشوائية أديا وسيؤديان إلى إراقة الدماء، وكأن المجتمعات المسلمة نفسها في صراعات داخلية بين تياراتها قبل أن تكون في صراع مع المسيئين للإسلام. غداة انتشار خبر الفيلم المسيء وبداية الاحتجاج عليه ثم قتل الدبلوماسيين الأمريكيين في بنغازي، استرجع العالم أحداث سبتمبر، كان ولا يزال هناك اعتقاد بأن "الحرب على الإرهاب"، إنما كانت في أذهان عسكرييها وسياسييها حرباً على المسلمين، صحيح أن الحكومات، ولا سيما الأمريكية، أطلقت الكثير من التأكيدات الرسمية بأن الأمر لا يتعلق بالإسلام والمسلمين، وبأنها تميز بين ما هو ديني إيماني وما هو دنيوي "إرهابي"، إلا أن وقائع عدة خلال استجواب المعتقلين في غوانتانامو وباغرام، وكذلك دعوة ذلك القس المهووس إلى حرق المصاحف، أظهرت أن ثمة ثقافة كراهية قد انتشرت بل أدخلت في أساليب تعبئة العسكريين على ما دلت إليه ممارساتهم في سجن أبوغريب العراقي وسائر السجون العلنية والسرية. كان الهدف من الحروب والاحتلالات، ومن انتهاج التنكيل والتعذيب والإذلال، تحقير الشأن الديني ورموزه، وتحطيم النفوس لتتقبل الإهانات للإسلام وكتابه ورسوله، وبالتالي إخراج الدين من الخطاب السياسي بمستوياته كافة، لكن النتيجة جاءت في معظم الأحيان عكسية، فالمعاملة التي تلقاها المعتقلون جعلت العديد منهم يعودون إلى القتال ما أن أطلق سراحهم، ومن تاب منهم لا يمكن القول إنه غدا صديقا لسجانيه السابقين أو محباً لبلادهم وسياسات حكوماتهم. أكثر من ذلك، حصلت تحولات هائلة في بلدان "الربيع العربي" وكانت الدول الغربية الأشد ترحيبا بها، بل ساعدت أو أوصت بأنها تساند الثورات، لكنها ما لبثت أن تقبلت على مضض واقع أن تيارات الإسلام السياسي برزت كوريث وحيد جاهز للأنظمة الاستبدادية المتهاوية، وتشاء المفارقة أن نجد الأنظمة الجديدة (الإسلامية) نفسها مضطرة للتكيف مع واقع يعرقل إداراتها للاقتصاد والمال والسياسة، ما لم تكن لها أفضل العلاقات مع الدول الغربية، ولا سيما الولاياتالمتحدة. صحيح أن هذه الأنظمة استبقت الوصول إلى سدة الحكم بمراجعات أو بصياغات منمقة لسياساتها كي تصبح مقبولة ومطمئنة، إلا أن التفاهمات المبدئية لا تلغي صعوبات التطبيقات العملية ولذلك فإن الكونجرس والدوائر المالية و"اللوبي الصهيوني" ترى أن سياسة المساعدات يجب أن تتشدد لاختبار الحكام الجدد ونياتهم وتوجهاتهم. عند هذا المنعطف الصعب تفجرت قضية الفيلم المسيء للإسلام وردود الفعل عليه، وبالأخص قتل السفير الأمريكي في بنغازي، فهناك داخل الإدارة الأمريكية من ضرب كفا بكف قائلا: إذا فقد تخلصنا من القذافي لنظفر بالقاعدة في ليبيا، وهناك داخل الكونجرس من تساءل: وهل مصر "الاخوان المسلمين" صديقة لأمريكا مثل مصر مبارك لنجدد مساعداتنا لها ونزيد عليها؟ وطرحت أسئلة مشابهة بشأن اليمن وتونس.. بل تجددت الشكوك في جدوى دعم المعارضة السورية، طالما أن هناك "جهاديين" يتكاثرون في المشهد، فضلاً عن السلفيين الذين أنشأوا حالات خاصة بهم ضمن الثورة السورية، تماماً كما فعلوا في بلدان "الربيع" الأخرى. لكن، هل يتعلق الأمر بالإسلام أم بالمسلمين، بالسياسة أم بالإسلام السياسي؟ لا شك أن هناك تداخلا بين كل هذه العناصر، فالعلاقة بين الغربيين والإسلاميين بدأت لتوّها من دون أن يكونوا قد حلوا خلافات مزمنة في ما بينهم، ذاك أن النقمة على السياسات الأمريكية لم تزل لأن النتائج الكارثية لهذه السياسات لا تزال ماثلة ومعاشة يومياً من أفغانستان وباكستان، إلى فلسطين والعراق، فضلاً عن مشروع الحرب المتفاعل ضد إيران وازدياد الهوس الإسرائيلي واندفاعه إلى تخريب المنطقة، وقد وجد رئيس الوزراء الإسرائيلي في الاحتجاجات الإسلامية فرصة للوم الولاياتالمتحدة على إهمالها ل"التطرف الإسلامي" متجاهلاً أن هناك في الإدارة الأمريكية من يشير إلى حكومته باعتبارها نموذجا ل"تطرف الدولة"، الموازي ل"إرهاب الدولة". لعل أهم دروس الاحتجاجات أن الحكام الجدد تعرفوا إلى حقيقة أنهم لا يستطيعون بعد الآن استخدام اساليب المعارضة، بل لعلهم اكتشفوا أيضا أن التيارات الإسلامية على يمينهم أو على يسارهم، يمكن أن تكون "خطراً" وفقاً لتوصيف راشد الغنوشي، ليس على حزبه فحسب وإنما على الدولة والبلد، والأكيد أن اخوان مصر وليبيا توصلوا إلى الاستنتاج نفسه، لأن التحديات لا تأتيهم من الليبراليين، أو حتى الفلول، وإنما من الجماعات التي يظنون أنها معنية بإنجاح تجربة الإسلاميين في الحكم، ولا شك أن هذه الفوضى تضعف دعوات كالتي أطلقها الأزهر ومنظمة التعاون الإسلامي لترجمة الاحتجاج المتزن والعقلاني على الإساءة للإسلام بتشريع دولي يجرم ويحرم المس بالأديان والمقدسات. لا أحد ينفي مشروعية الاحتجاج، لكن يجدر بالجميع وضع الإساءة في حجمها الصحيح، فالإسلام كدين لا يمكن أن نقلل من شأنه بأساليب رخيصة ومبتذلة كهذه، لم يكن مطلوبا تمريرها كأنها لم تكن، ولا اتخاذها شماعة لتعليق أشياء كثيرة لا علاقة لها بالإسلام عليها. إذ أن الجدل الدائر اليوم على المواقع الإلكترونية يوحي بأن الإسلام يخص المتطرفين والغوغائيين الذين افتعلوا العنف حيثما استطاعوا، بل انهم يعتبرون سلوكهم صحيحا، ولذا باتوا يصنفون الآخرين إلى حد التشكيك في إسلامهم. نقلا عن صحيفة الشرق القطرية