من يتكهّن بنهايات سعيدة لأزمة سوريا اعتماداً على التفاؤل فهو واهم، فالمبعوث الدولي الأخضر الإبراهيمي في كلمته في الأممالمتحدة بدا ناعم اللغة، حريري الأسلوب. داعياً إلى حوار الشجعان، ومبشّراً بمنعطف جديد، ومتّكئاً على عبارات تخطب الود تحت ظلال الكلمات؛ ليسوّق صورة جديدة بوهمٍ جديد، فسوريا اليوم أسيرة رِهانات وأيديولوجيات، ورهينة تناقضات لا مثيل لها، ورهينة أثنيات وعرقيات وطوائف، ورهينة خصومات وثارات عصبية، ورهينة حروب هي من صنع الداخل، وحروب يصنعها الخارج، ومؤامرات، وتحزبات، واختراقات أمنية، وتفجيرات بالمدافع والصواريخ والقنابل، ومجازر يذهب ضحيتها الأبرياء، وموت فاغر فاه يلتهم ضحاياه خاصة الأطفال الرُضّع والشيوخ والعجزة والشباب، مغتالاً الأحلام، راسماً صورة قاتمة للمستقبل القريب . وما زال المجتمع الدولي يقف مكتوف الأيدي، عاجزاً، يقدم خطوة ويتراجع خطوات، غير عابئ بالأبرياء الذين لقوا حتفهم، ولا بالمشردين اللاجئين الذين فقدوا ديارهم وذويهم، ويكلّف الأخضر الإبراهيمي- بعد فشل مهمة كوفي عنان - الذي كان أول ظهور سياسي له، بعد تعيينه مسؤولاً في الجامعة العربية بين الأعوام 1984 و،1991 ومن ثم بدأ جولاته التفاوضية شرقاً وغرباً، وكانت البداية في لبنان العام 1989 حين تم إيفاده من قبل جامعة الدول العربية؛ لمساعدة اللبنانيين على الخروج من نفق الحرب الأهلية المُظلم، وإعادة بناء الدولة الواحدة الجامعة . وساعده على ذلك أن رياح الصلح كانت مواتية، بعد أن أعيا القتال كل الأطراف المتصارعة، ويئس كل طرف من الأطراف المتصارعة من تحقيق أي نصر على الأطراف الأخرى، وأثقل الموت الجسد اللبناني كله . وتم تتويج الجهد العربي بعقد مؤتمر الطائف العام ،1989 والذي جمع الفرقاء اللبنانيين على طاولة واحدة، واتفقوا على الخروج ببلدهم من نفق الحرب المظلم، إلى نور السلم . وبعد المهمة في لبنان طمعت الأممالمتحدة بالإبراهيمي فأرسلته باسمها إلى كل من هاييتي وجنوب إفريقيا وزائير واليمن، في الفترة الممتدة بين عامي 1994 و1996 للمساعدة في فض النزاعات التي كانت ناشئة في تلك الدول بأشكال مختلفة . ولم تكن مهامه هذه ناجحة، واقتصرت على تبادل الرسائل والاستماع إلى وجهات النظر المختلفة، فمثلاً، استطاع اليمن الشمالي الانتصار على اليمن الجنوبي، وحقق الوحدة اليمنية، واختفت دولة اليمن الجنوبي، وبالتالي، فإن القوة العسكرية هنا هي التي حسمت النزاع، وليس مبعوث السلام الدولي الأخضر الإبراهيمي . وبعد مهامه في تلك الدول أرسل إلى العراق ثم أفغانستان بين عامي 1997 و1999؛ ليعمل على حل الخلاف بين حكومة طالبان آنذاك، وبين تحالف الشمال المعادي لها بقيادة أحمد شاه مسعود .ولم يوفق الإبراهيمي في مهمته هذه أيضاً، فقد حسمت طالبان الصراع بعدما دبرت اغتيال أحمد شاه مسعود العام 2001؛ لكنها لم تستطع قطف ثمار هذا النجاح؛ لأن الولاياتالمتحدة قادت تحالفاً عالمياً ضدها بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ،2001 وأنهت حكمها في أفغانستان . وعندما بدأت أحداث العنف في سوريا تتصاعد مع منتصف العام 2011 ، تدخل المجتمع الدولي، واتفقت الدول الكبرى، وظاهرتها بعض الدول العربية، وانتهى الاجتماع الذي عُقِد في جنيف ربيع العام 2012 على خطة لإحلال السلام في سوريا، وتم إيفاد الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان إلى سوريا؛ لتنفيذ هذه الخطة التي عرفت بخطة النقاط الست، والتي تتضمن وقف العنف من قبل الطرفين: الحكومة السورية والمعارضة، ودخول الجميع في عملية سياسية تضمن الانتقال الديمقراطي السلمي في سوريا . وبعد جولات كوفي عنان في عواصم أوروبية وعربية عدة، ومحاولات للتوصل إلى تسوية تُرضي الطرفين، باءت جهوده بالفشل؛ بسبب عدم توافر الإرادة الدولية الصادقة، لوضع حد للأزمة السورية . وفجأة قدم عنان استقالته إلى الأمين العام للأمم المتحدة، وتنحّى جانباً . ولم تلبث المنظمة الدولية أن اختارت الأخضر الإبراهيمي لمواصلة تنفيذ تلك الخطة، آملة بأن يكون الإبراهيمي بحكم كونه عربياً، يستطيع أن يفهم جوهر الصراع في سوريا، ويستطيع إقناع جميع الأطراف بحل توافقي للخروج من الأزمة . لكن بدايته لم تكن موفقة، فقد تحدث عن حرب أهلية تجري في سوريا الأمر الذي اعترضت عليه الحكومة السورية، وأكدت أنه لا توجد حرب أهلية بل صراع ضد مجموعات متطرفة مسلحة، وربما أراد الإبراهيمي من خلال هذا التصريح الدخول إلى عمق الأزمة السورية وفق الرؤية الغربية التي تؤيد الحراك الشعبي ضد النظام السوري، فتصريحه بوجود حرب أهلية يعني أن النظام السوري فقد شرعية وجوده، وأن الحوار يجب أن يبدأ بين خصوم سوريين ليس لأحد منهم أكثر من الآخر . ومن هنا، فإن الإبراهيمي مال إلى الطرف المعادي للنظام السوري - من وجهة نظر السلطة السورية - سواء من المعارضة أو من الدول الإقليمية والغربية، وبذلك فإنه قد فشل في مهمته حتى قبل أن يبدأ . إنها المهمة الثقيلة لرجل مغرم بتصريحاته المكبرة والملونة، ويفكر بعقل صنعته “الأدوات”، وينحاز إلى ما يُملى عليه، وربما تقضي مصالحه بعدم الوقوف على الحياد في قضية باتت مسرحاً للتنافس بين الدول الفاعلة في العالم . نقلا عن صحيفة الخليج الاماراتية