"نعيش أمواتا" .. ترددت تلك الجملة على لسان الكثيرين من سكان مقابر السيدة نفيسة الذين طالما تعالت صرخاتهم للمسئولين معبرة عن مآسيهم وأوجاعهم وهمومهم التي يعانون منها داخل تلك الغرف المجهزة للأموات. قضت بوابة الوفد يوما كاملا مع سكان المقابر في هذه المنطقة التي تلفها السكينة.. عالم خارج نطاق الحياة، أطفال ونساء وشيوخ يعيشون كالأموات، لم يجدوا مأوى لهم في مساكن الأحياء فزحفوا نحو مساكن الأموات ليزاحموهم ويستقروا بجوارهم بعد أن أدار لهم المسئولون ظهورهم فأصبحوا من أكثر الفئات تهميشا وأصبحوا هم وجيرانهم من الموتى سواء.. أخاف على ابنتي من داخل غرفة ضيقة لا تحوي سوى سرير و دولاب تكسرت ضلفاته وبوتوجاز يبدو عليه الصدأ، تحدثت رشا مصطفى، 29 سنة، لتذكر أنها قبلت الزواج في المقابر وتأقلمت على العيش بها، إلا أنها تخشى على طفلتيها من الاختلاط بمن يورد على المقابر من بلطجية ولصوص ومتعاطي المخدرات الذين لا يجدون غير المقابر ليختبئوا بها، مشيرة إلى أن ابنتها الكبرى بالمدرسة الابتدائية أصبحت شديدة الانطواء تخشي أن يعرف أحد أنها تسكن المقابر، وأنها أصبحت أكثر سلبية وأقل قدرة على التحصيل الدراسي بسبب حالات الرعب التي تنتابها مساء كل يوم. وأبدت الأم قلقها على ابنتيها عندما تكبران في ذاك المكان الرهيب غير الآمن، وتوجهت إلى المسئولين قائلة: "إن كنتم تتحدثون عن إزالة المقابر حفاظا على الأموات ، أليس بناتى أحق بالاهتمام؟ حافظوا عليهن وأعطونا شقة علشان نعيش زينا زي البني آدمين". أربعة في واحد انتقلنا إلى مدفن آخر ،أقصد غرفة أخرى ، فوجدت الأمر أشد سوءا، فهي حجرة شديدة الضيق تحيطها شواهد القبور من كل ناحية ويملؤها الذباب والحشرات الغريبة، ووسط كل هذا راحت مجموعة من الأطفال تعبث بمحتويات الغرفة المتناثرة هنا وهناك محدثين صخبا يضج له الأموات.. وعندمت هممت بالحديث مع والدتهم سارعت بإخراجهم من الغرفة ليبدأوا اللعب بتراب المقابر ا لموجود بحوش الدفن المقابل للغرفة، وقد تعالت تحذيراتها لهم من العقارب التي يمتليء بها المكان على حد قولها.. سألتها في دهشة عن حياة أسرة كاملة داخل غرفة كالقبر(متر × متر) فأجابتني ساخرة: " أسرة إيه يا أستاذة.. إحنا 4 أسر عايشين في القبر اللي انت شايفاه ده " ثم أشاحت بوجهها وتمتمت بصوت منخفض: صحيح اللي ما يعرفش يقول عدس ! وأكملت هناء حسن، 33 سنة، أن أسرتها تسكن في تلك الحجرة مع أربعة أسر لرجال أشقاء(أعمام أولادها)، وأن لديها أربعة أبناء منهم البنات اللائي يعشن مع أولاد أعمامهم، لتبدي قلقها من استمرار ذلك الوضع عندما يكبر البنات . الإعلام يشوه صورتنا و أمام أحد الحيشان جلست مجموعة من السيدات ، وخلال الحديث معهن نددت نفيسة ناصر، ممرضة 31 سنة، بما يذكره الإعلام عن سكان المقابر بأنهم تجار مخدرات، وأن النساء عاهرات، مشيرة إلى أن محاولة تشويه صورتهم هدفها أن يصرفوا مساندة الرأي العام لهم، مؤكدة أن جميع سكان المقابر شرفاء ومحترمون. وذكر خميس إسماعيل، محار، أنه ولد بالمقابر منذ 52 سنة ، و أنجب بنتين إحداهما في الثانوية و الأخرى في الإعدادية، و قد تأقلم مغصوبا على تلك المعيشة، فعندما يذهب إلى أي مسئول يأخذ منه الأوراق ويلقيها في سلة القمامة.. وأضاف :"ليس هناك أي مسئول يعيرنا أي اهتمام، فنحن لا نراهم إلا في الانتخابات، ولا يحاول أحدهم أن يطل على تلك المنطقة أصلا" وفي خلال حديثنا مع زائري المقابر، ناشد حسين علي صالح ، 70 سنة ، المسئولين أن ينظروا إلى سكان المقابر ويعاملونهم كالبشر، فهم يعيشون حياة بائسة مع الأموات برغم أن معظمهم متعلمين ومثقفين ويستحقون حياة أفضل. مجرمون جدد وعن تأثير الحياة في المقابر على سكانها ،الأحياء، أكدت د.علا شاهين، أستاذ علم الاجتماع، أن انعزال سكان المقابر عن الناس في السكن يخلق لديهم الشعور بالحرج الاجتماعي، حيث أعطاهم المجتمع وصمة اجتماعية لسكنهم وسط الأموات، حيث يشعر الآخرين بالخوف من ساكني المقابر، على الرغم من أنهم يعيشون بشكل منظم جدا ويزداد إيمانهم بالحياة والموت. وبالنسبة لتأثير تلك المعيشة على الأطفال أكدت أن هؤلاء الأطفال غالبا ما يصابون بالإحباط وينظرون إلى ذواتهم نظرة دونية، لكونهم محرومين من كافة الرفاهيات المتاحة لأقرانهم، كما أن وجودهم في مجتمع الأموات يجعلهم يتعلمون تبلد المشاعر، ويزرع داخلهم سلوكيات المقابر كالتسول لشعورهم بالحرمان و القهر. وحذرت شاهين من استمرار الأطفال في تلك المعيشة التي تخلق منهم أشخاصا أكثر عنفا وتساعد على إفراز مجرمين جدد. وأوصت بضرورة حل تلك المشكلة، وتوفير سكن لهؤلاء وسط الأحياء و ليس وسط الأموات، وأن يتم توفير احتياجاتهم من خلال المشاريع الصغيرة، وإعادة تثقيف الأهالي لرفع الوصمة عنهم، و بهذا يضاف إلينا مجتمع آخر أكثر رقيا و تحضرا. المسئولون يرحلون ولا يحلون وفي نفس السياق أكد د.صفوت العالم، أستاذ الإعلام السياسي، أن مشكلة سكان المقابر من المشكلات التي يقوم المسئولون بترحيلها وليس حلها، وأن المسئولين بإمكانهم وضع حل جذري لها، موضحا أنه عندما يشتد الإعلام في الهجوم على المسئولين والتنديد بحال سكان المقابر، يضطرون إلى إعطاء الشقق السكنية لأقاربهم ومن يتوسط إليهم نيابة عن أحد سكان المقابر ويعلنونها كأنها خطوة في سبيل حل أزمة سكان المقابر. وأضاف أن المسئولين بوسعهم حل تلك المشكلة بإعطاء الشقق السكنية المتوفرة في المدن الجديدة إلى من يستحق من فقراء ومحتاجين بدلا من استثمارها وحكرها على رجال الأعمال الذين يشترونها بأموال لا تذكر ليبيعونها للعامة بمبالغ طائلة. وفي إطار الحديث عن تذبذب المعالجة الإعلامية لقضية سكان المقابر أكد د.العالم أن التغطية الإعلامية طوال ال 30 عاما الماضية كانت ترتبط بأولويات النظام السياسي وليس أولويات المواطنين، وأنه آن الأوان لتغيير تلك السياسات والتعبير بحق عن معاناة الناس ومشاكلهم الحقيقية. عم خميس ..مدفون في هذه الغرفة منذ 52 عاما الحياة مع الأموات خلقت لديهم شعورا بالعزلة والحرج الاجتماعي في هذه الغرفة الصغيرة تعيش أربعة عائلات! تحلم بشقة تعيش فيها مع بناتها "زي البني آدمين" أطفال المقابر محرومون من كل الرفاهيات المتاحة لأقرانهم