لا يمكن ان يمر الذى اذاعه الكاتب الكبير «صلاح منتصر» يوم الثلاثاء الماضى، وأعلن فيه استقالته من اللجنة التى شكلها مجلس الشورى، لاختيار رؤساء تحرير الصحف القومية، دون ان يتوقف جميع الذين تعنيهم قضية حرية الصحافة، امام ما أفصح عنه صاحبه من حقائق مهمة، وما ألمح اليه من وقائع خطيرة. وتعود اهمية بيان الاستقالة الى ان الذى اصدره شيخ من شيوخ الصحافة ، يعمل بها منذ نحو ستين عاما، تنقل خلالها من أولي درجات السلم الصحفى، الى ان اصبح رئيسا لتحرير ومجلس ادارة احدى المؤسسات الصحفية الكبرى، وكان واحدا من قليلين قرروا ان يستقيلوا من مناصبهم طواعية بمجرد بلوغه سن المعاش، لكى يفسح الطريق امام غيره ويتفرغ لدوره ككاتب اتسمت كتاباته بالعمق والعقلانية، وحاز لهذا السبب ولغيره احترام قرائه، واحترام الاجيال المتتابعة من الصحفيين، والمعنيين بالشأن العام. وفضلا عن هذا، فإن «صلاح منتصر»، قد اختير لعضوية هذه اللجنة باعتباره وكيلا للمجلس الاعلى للصحافة، وواحدا من اربعة من شيوخ الصحفيين، الذين اختيروا لعضوية اللجنة بهذه الصفة، من بين اربعة عشر عضوا هم كل أعضائها. ومع ان منتصر قد اعترض على فكرة اللجنة فى حد ذاتها مقترحا ان تجرى عملية اختيار رؤساء تحرير المؤسسات الصحفية القومية من داخل المؤسسات نفسها، بأن تختار هذه المؤسسات ثلاثة من المرشحين تقدمهم الى مجلس الشورى باعتباره مالكا لها، ليختار واحدا منهم، الا انه قبل عضوية اللجنة وفى ظنه ان الاجراءات التى سوف تتبعها ستتم بالحيادية والنزاهة، وتستند الى قواعد مهنية تستهدف اختيار الافضل. لهذا المنصب، لكن التجربة كشفت، كما ذكر «صلاح منتصر» فى بيانه عن الحقائق التالية: أن هناك اتجاها من البداية ، لاستبعاد عدد من رؤساء التحرير الحاليين، بصرف النظر عما اذا كانوا قد امضوا مدة طويلة فى مناصبهم ،او لم يمضوا سوى مدد قصيرة، وبصرف النظر اذا كانوا قد نجحوا فى مهمتهم، ورفعوا من شأن الصحف التى يتولون رئاسة تحريرها، او عجزوا عن ذلك. وأن هناك تربصا بهم واصرارا على التذرع بأسباب شكلية لاستبعادهم منها، والاصرار على ان يتقدموا بأرشيفهم الصحفى وبمشروعهم لتطوير المطبوعة، على الرغم من ان هذا الارشيف موجود بين يدى اعضاء اللجنة، ممثلا فى الاعداد المتتالية التى صدرت من هذه الصحف والمجلات خلال الفترة التى رأسوا فيها تحريرها ومن ان مشروعات التطوير موجودة كذلك فى اللمسات التحريرية الجديدة التى اضافوها الى تلك، وهم ليسوا فى حاجة لا الى تقديم أرشيف، ولا الى وضع مشروع للتطوير. ومع ذلك فقد اعتبرت اللجنة على خلاف الوعد الذى كان قد قطعه رئيس مجلس الشورى للاستاذ «صلاح منتصر» ان يقدم رؤساء مجالس ادارات المؤسسات الصحفية القومية نيابة عن رؤساء التحرير القائمين مخالفة للشروط، وقررت خصم 30 درجة من الدرجات التى يستحقها كل منهم لعدم تقديمهم الارشيف ومشروع التطوير! وكان لافتا لنظر الاستاذ «منتصر» ان اثنين ممن ضموا الى اللجنة ليمثلا الصحفيين،قد ايدا هذا الاتجاه المتعنت فى التعامل مع رؤساء التحرير الحاليين، وكأن ذلك هو الهدف من عقد اللجنة، وليس دعم الصحف والمطبوعات التى تحتاج الى تجديد لدماء قيادتها، مع بقاء الذين نجحوا وحققوا انجازا فى مهمتهم، فى مواقعهم! وقد لاحظ الاستاذ «منتصر» كما يقول بالنص فى استقالته «غيابا دائما عن اجتماعات اللجنة لعدد من اعضائها المنتمين الى حزب الحرية والعدالة، حتى الموعد المحدد لتسليم ملفات المرشحين، لم يقدموا هذه الملفات، فى الوقت الذى سلم فيه جميع اعضاء اللجنة ملفاتهم». هذه هى الاسباب المعلنة لاستقالة الاستاذ «صلاح منتصر» من عضوية اللجنة التى اصر مجلس الشورى فى مواجهة اعتراضات واسعة داخل الجماعة الصحفية، شملت اغلبية اعضاء مجلس نقابة الصحفيين، وأغلبية اعضاء المجلس الاعلى للصحافة، على تشكيلها لاختيار رؤساء تحرير الصحف. أما الذى لم يعلنه الاستاذ «صلاح منتصر» واكتفى بالتلميح اليه، فهو ما عبر عنه بقوله انه لاحظ وعرف اشياء لا تجعله يعفى نفسه من شكوك يشعر معها بعدم الارتياح، الى ما سوف تصل اليه اللجنة، وانه بصراحة يخشى ان يكون اشتراكه فى اللجنة وسيلة لأهداف لا يرتضيها او يقبلها، ولذلك فهو يعلن استقالته من اللجنة ،وبراءته من القرارات التى تصدر عنها. وما لم يذكره الاستاذ «صلاح منتصر» مما «لاحظه» و«عرفه» ودفعه للشك فى عمل اللجنة والاستقالة هو الأخطر والأهم لانه هو الذى يؤكد ما دفع كثيرين من الصحفيين للاعتراض على تشكيل هذه اللجنة، وللمطالبة بتأجيل عملية اختيار رؤساء تحرير الصحف القومية الى حين الاتفاق على السياسة التى ستتبع تجاه هذه الصحف، وهل ستظل كما هو الحال الآن تابعة لمجلس الشورى، ليسخرها كما كان الحال فى العهد السابق، لمصلحة الحزب الحاكم الذى يحوز الاغلبية فى هذا المجلس، عن طريق التحكم فى اختيار رؤساء تحريرها بحيث يكونون من الموالين لهذا الحزب، أو من اصدقائه، أو على الأقل القادرين على توجيه الصحف القومية، لكى تحصنه ضد النقد، ام انها ستسترد استقلالها ومهنيتها، وتدار على أسس مهنية بحتة، وتبعد عن كل شكل من أشكال تحزيبها لصالح أى حزب أو أى سلطة،. وتلك هى القضية الخطيرة التى تطرحها الاستقالة الشجاعة التى قدمها «صلاح منتصر» لتكون أحد العوامل الاضافية التى تفقد هذه اللجنة كل مشروعية ، وتفقد كل من شارك فى اعمالها كل ثقة أو مصداقية. وتحية للاستاذ الشيخ «صلاح منتصر»، الذى آثر ان يلقن الصحفيين، وغيرهم دروسا فى الالتزام بالمهنة، والامتثال فقط لقواعدها.