تتنوع المعارك السياسية من حيث أشكالها ووسائلها ولكنها تتفق فى السعى إلى تحقيق أهداف تخدم التوجه السياسى للفصيل الذى يخوضها. ورغم التنوع الواسع للأشكال والوسائل، إلا أن تلك المعارك تخضع فى مجملها للقواعد التى تضبط الحياة السياسية، والتى يؤدى الخروج عليها إلى انحراف العمل السياسى عن مجراه، مما يعرض المجتمع لضغوط هائلة تولد عنفا يحول دون تحقق الحد الأدنى من التوافق الوطنى الذى يرتبط بوجوده بقاء الدولة نفسه. ومن هنا، فإن الاحتشاد والتظاهر حول المحاكم وداخل قاعاتها بقصد التأثير على المحكمة ليس من الوسائل المعتمدة فى المعارك القضائية، بل كل ذلك يشكل جريمة يقع مرتكبها تحت طائلة القانون. ولا شك أن الاخوان المسلمين ومن حالفهم ارتكبوا خطأ كبيرا فى حق الوطن أولا، وفى حق أنفسهم ثانية، عندما نظموا ومَولوا تلك التظاهرات والاقتحامات بقصد ممارسة ضغط جماهيرى على القضاة أثناء نظر قضايا بعينها، للإخوان مصلحة خاصة فى أن يحكم فيها وفقا لما يريدون. وعلينا أن نتساءل عن السبب الذى دفع الاخوان وبعض روافد التيار الدينى الأخرى إلى هذا الاخلال الجسيم بالاحترام الواجب للقضاء المصرى، مع علم الاخوان، من واقع خبرتهم التاريخية الطويلة، بالثمن الباهظ الذى سوف يدفعونه سياسيا واجتماعيا. إن تسلسل الأحداث فى الأشهر القليلة الماضية يقطع بأن الاخوان قرروا وأعدوا وأقدموا على مواجهة شاملة مع القضاء المصرى، الذى كان ولايزال ملجأهم وملجأنا جميعا كلما هبت رياح الاستبداد. ونتفهم بسهولة حرص الاخوان على الابقاء على مجلس نيابى لهم فيه أغلبية حاكمة تسمح بالسيطرة على الآلة التشريعية، بالاضافة إلى السيطرة على تشكيل الجمعية التأسيسية المنوط بها وضع مشروع الدستور المصرى الجديد. ولكننا نتشكك كثيرا فى دقة حسابات جماعة الاخوان المسلمين، صاحبة الخبرة السياسية الكبيرة. فكيف ظنت الجماعة أنها تستطيع أن تضغط على القضاء المصرى لحمله على الانصياع لارادتها؟ وكيف ظنت أن هذا الضغط العلنى الفظ يمكن أن يأتى بالأثر المطلوب؟ وكيف غفلت عن أن مؤسسة القضاء المصرى مؤسسة عريقة مستقلة ومستقرة، وقادرة على الحفاظ على استقلالها فى مواجهة الضغوط الظاهرة والمستترة؟ وكيف ظنت جماعة الاخوان المسلمين أنها قادرة على اهدار أحكام القضاء واجبة النفاذ بعد أن تبوأ أحد قادتها سدة رئاسة الدولة؟ وأخيرا هل مازالت الجماعة تعتقد أنها تستطيع انقاذ الجمعية التأسيسية الثانية من الحكم ببطلانها عن طريق الالتفاف حول الأحكام القضائية أولا ثم اقتحام قاعات المحاكم وترويع القضاة والمتقاضين؟ لقد دلت التجربة العملية على أن القضاء المصرى قادر وحده على حماية استقلاله ورد أى محاولة تهدف عن طريق ارهاب القضاء واهدار أحكامه إلى هدم دولة القانون من أساسها. كما أن الرأى العام فى مصر لا يقبل من أحد أن يمس هيبة القضاء. فهل نعود جميعا إلى الحق؟ والحق أن الدستور الجديد اما أن يكون توافقيا أو لا يكون. والحق أيضا أن هذا التوافق قد تحقق فى الأيام الأولى للثورة، وتضمنته وثائق وقعتها كل القوى الثورية. هذا التوافق قائم حول الدولة المدنية الحديثة، الدولة التى ترسى سيادة الأمة بعنصريها: الاستقلال الوطنى فى مواجهة الخارج والديمقراطية فى الداخل. الدولة المدنية الحديثة التى تحمى الوحدة الوطنية بوجهيها: المواطنة باعتبارها مصدر الحقوق والواجبات دون تمييز على أساس الدين أو العرق أو الجنس، والوجه الآخر هو العدالة الاجتماعية، لأن الوحدة الوطنية لا تلتئم أبدا فى المجتمعات التى تهمش فئاتها الأفقر أو الأضعف. هذا هو قلب العقد الاجتماعى الجديد الذى توافق عليه الجميع. هل آن لنا أن نعود إلى التوافق بعد أن تبين للكافة أن القوة لن تستطيع أن تحطم مؤسسات الدولة العريقة، ولن تستطيع أيضا أن تحمل الأمة على الخضوع لسيف المعز وماله؟ أما آن لنا أن نتصارح ثم نتصالح ونتعاون بنية خالصة من أجل أن تتفق الأقوال والأفعال؟ ... وللحديث بقية... بقلم محمود أباظة