عبدالغفار شكر: أغنية «مدد.. مدد» سرقت من أعمال زكى عمر د. يسرى العزب: لم ينافق أو يهادن ولم «يبع كلمته» عوض الشيخ: كان شاعراً لنصر أكتوبر بلا منازع كان ممكن، حبل العمر يطول.. ويطووول والناقة، تشيل مليون محصول والقول، يتَمّد، يِشدّ الحيل لكن الفرق كبير - بين موت الموت، والموت مقتول «عدن- 1987» لقد حاول شاعر العامية المصرى «زكى عمر» صاحب تلك الأبيات الشعرية، الفلسفية، الحزينة- قبل موته- أن يلفت انتباهنا إلى أهمية الفرق ما بين «موت الموت.. والموت مقتول»! وكأنه ببساطته، ونقاء سجيته، وصفاء سريرته، قد علم نهايته المحتومة، والمقسومة، والمرسومة، بصورة دراماتيكية، ومأساوية غير متوقعة. حدثت المأساة، ظهيرة يوم حار جداً، عندما كان يجلس مع أسرته، على رمال شط بحر العرب، بمدينة عدن عاصمة اليمن الجنوبية الديمقراطية الشعبية- قبل الوحدة مع اليمن الشمالية عام 1990 ولمح من بعيد، ابنته «أمل» وهى تشتبك مع الأمواج التى أوشكت على سحبها، لدوامة الغرق، الفتاة- قدر استطاعتها- تصارع الموج ودواماته، حتى لا تغرق وتفقد الحياة، الأب يقفز مسرعاً، من فوق الرمال الساخنة، ويلقى بنفسه فى البحر، محاولاً إنقاذها، بعد لحظات قضاها- الأب والابنة معاً- ما بين القوة والضعف، والأمل واليأس، والحياة والموت. نجح الأب بإرادته، ورغبته فى إنقاذ «أمل» لتعود للحياة. على الجانب الآخر، نجح البحر، بقسوته، وأمواجه العاتية، فى أن يهزمه؛ فيموت غرقاً، وتفقده الحياة! الحياة.. التى فيما يبدو- استمعت لصوته، وحلمه، عندما خاطبها فى قصيدة له بعنوان «الخوف» نشرت عام 1971- قائلاً: -«يا بكرة الجاى أنا عطشان - أنا يا بكرة- صدقنى أنا إنسان - كرهت الدمع والأحزان.. - ومش عايز أموت نايم على سريرى - أنا عايز أموت واقف على حيلى» .. ولقد تحقق له ما تمناه؛ فلم يمت على سريره «كما يموت البعير»، ومات واقفاً على «حيله» مثل النبلاء وهم يواجهون الموت من أجل الحياة «المنصورة- 1938»! - ما كانتش تحب اللون، الباهت - ما كانتش تحب المية الفاترة، وكانت لما بتكره، تكره موت وأما تحب، تحب صبابة وأما بتحزن، تبقى ربابة وأما بتفرح، يبقى الفرح على البوابة - كانت زى الشمس.. وكانت، - لما بتغضب تبقى.. مهابة. مَن هذه المرأة التى تحدث عنها الشاعر بكل هذا الحب والتعظيم والتبجيل؟ إنها أمه التى عاشت بعد رحيل زوجها، متحملة المسئولية كاملة- ومعها طفلة صغيرة وطفل ولد بعد رحيل أبيه- بجسارة وقوة وصبر. واستطاعت أن تُعلم ابنها «زكى» وتسانده حتى حصل على شهادة الزراعة، وأتاحت له- فى حدود قدرتها- الفرصة المناسبة لتطوير ثقافته وموهبته فى كتابة الشعر والأغانى. ولذا كتب فيها قصيدة عشق شديدة الصدق، والجمال، والعذوبة، عنوانها «وقفة قصيرة على قبر أمى» كشف فيها عن عظمة، وقوة، وصلابة الأم المصرية- خاصة فى الريف- وهى تواجه المحن، وغدر الزمن. نشأ شاعر العامية زكى عمر «1938- 1987» فى ريف مدينة المنصورة، وبدأ مشواره الإبداعى من هناك، حيث النشأة والتكوين. عن هذه المرحلة قال فى حوار معه لم ينشر من قبل: بدأت علاقتى بالشعر من الحقول، حيث أغنيات العمل، ومواويل البسطاء، على المصطبة كل مساء. ومن حكايات أمى قبل النوم كل ليلة. لقد أخرجت القرية ما بداخلى من شعر، وبمرور الوقت أحببت الشعر المسرحى وكتبته. وكانت البداية مع مسرحية «الفانوس» التى أعددتها عن قصة قصيرة لعبدالله الطوخى، لكنها ضاعت فى مكتب مدير مسرح العرائس فى ذلك الوقت صلاح السقا! ثم كتبت أغانى وأشعاراً لمسرحية «المشخصاتية» لعبدالله الطوخى إخراج عبدالرحيم الزرقانى عام 1971 وألحان وغناء محمد نوح. ثم بعدها دخلت المعتقل. «سجن القلعة- عام 1973» فى تلك السنوات، شهدت مصر حالة من الغليان السياسى فى عامى 72، 73 بعد خطاب «الضباب» الشهير الذى ألقاه الرئيس الراحل السادات، متعللاً فى عدم الوفاء بوعده للشعب بأن يكون عام 71 هو عام الحسم، بأسباب لم تقنع الشعب، خاصة المثقفين والطلاب- هكذا يقول محمد الهادى أحد زعماء الحركة الطلابية- الصف الثانى منها- والذى التقى زكى عمر فى المعتقل وركب معه عربة الترحيلات من سجن القلعة إلى سجن القناطر. يقول الهادى: بعد التسكين فى القناطر، كنا نخرج من الزنازين مع شروق الشمس، ونعود إليها مع الغروب. وطول اليوم ما بين تعارف ونقاشات وتريض فى الشمس، وأحياناً تجمعنا أغنية أو سماع قصيدة شعر.. ولأول مرة أتحدث مع زكى عمر وأعرفه عن قرب كان فى تلك الأوقات. وكان المساجين الجنائيون يطلبون سماع قصائد أحمد فؤاد نجم والأبنودى وزكى عمر خاصة قصيدته الشهيرة «وقفة قصيرة على قبر أمى». يكمل محمد الهادى شهادته قائلاً: كان يبدو لنا، وكأنه يقف على المسرح تحت الأضواء الكاشفة، بالجلباب الفلاحى، وقدميه بها آثار طين الغيطان، من فرط صدقه وحماسه. وكان متحفزاً فى حواراته مع النخب التى عاشت تحت أضواء القاهرة.. فى البداية لا تشعر معه بالارتياح والألفة، إلا بعدما تتعامل معه بشكل شخصى، فتجده ودوداً جداً، وكأنه شجرة تضلل عليك. لكن إن لم تحسن تقديره، تجده جافاً كعود الحطب! ما كانتش تحب تفاصل فى الأشياء كان مُرّ المُر.. وداء الداء.. إنك ما تاخدش كلامها، مُسلّمْ بيه «الواحد بس ح يكدب ليه»؟ كانت، تلعن أم الكلمة اللى بوشين إزاى.. حيكون لك لون.. «لو إنك عشت- يا ولدى- بدون أعداء؟ » «ميدان التحرير 2019» بعد خطوات من الميدان. كانت تقام ندوة شعرية فى دار الأدباء.. على المنصة يوجد الدكتور يسرى العزب والشاعر عوض الشيخ. يتبادلان قراءة أشعاره. بعد دقائق انتهت الندوة وجلسنا معاً. قال الدكتور يسرى العزب: نحن أمام شاعر، أخلص للشعر والإنسانية معاً، فلم ينافق أو يهادن أو يكذب على الناس أو باع شرف الكلمة مثل غيره. ولقد استبعدوه، وتمنوا موته، لأنه كان صادقاً وهم كاذبون. موهوباً وهم أنصاف موهبة. كان صوتاً للحقيقة بينما كانوا صوتاً للنفاق. قلت له من هؤلاء الذين تشير إليهم. قال: بعض من أبناء جيله الذين كانوا يحكمون ويتحكمون فى المنابر الصحفية والثقافية فى ذلك الوقت، حتى لا يظهر إبداعه؛ فضيقوا عليه الوجود والنشر والعمل، فقرر ترك الوطن مجبراً، لا مخيراً. عن هذه الغربة التى اضطر إليها قال زكى عمر: «عندما قررت الهجرة، أو عندما دُفعت دفعاً لتعاطيها، كان هروباً من الطابور الخامس داخل الحركة الوطنية والثقافية داخل مصر مدد.. مدد.. ما تشدى حيلك يا بلد إن كان فى أرضك مات شهيد فيه ألف غير«المنصورة- 1972» نحن الآن على مسرح قصر الثقافة، الذى يستقبل الكثير من أعماله وغيره من مسارح الأقاليم التى تقدم أعماله المسرحية المتميزة. فهو يكتب للحلم. والوطن والمقاومة. والصمود. بعد نكسة 1967. وفى أواخر عام 1972 كتب مسرحية شعرية بعنوان «مدد.. مدد.. ما تشدى حيلك يا بلد» قام المخرج عبدالغفار عودة بإعدادها عن ديوانه «الحلم فى عز الضهر» وقدمت على مسرح الجمهورية، وبعد أسبوع من رفع الستار عن «مدد» كان مسرح المنصورة القومى، يعرض له عملاً آخر بعنوان الشرارة. هذا ما يؤكد عليه الشاعر «عوض الشيخ» أحد تلاميذه، وهذا يعنى من وجهة نظره المدعومة بالصحف الصادرة وقتها- أن أغنية «مدد مدد.. ما تشدى حيلك يا بلد» التى غناها الراحل الفنان محمد نوح سُرقت منه ونسبت إلى شاعر آخر- يقصد الشاعر الغنائى إبراهيم رضوان- والدليل- حسب قول الشيخ- على ذلك أيضاً أن صحيفة الجمهورية كتبت فى عددها 12 أكتوبر 1977: «مع اللحظة التى اندلع فيها أشرف قتال على الأرض المصرية من أجل التحرير، بدأ المسرح المصرى يلعب دوره. وتقدمت كتيبة مسرحية صغيرة من طلائع المسرح الحديث، ليقدموا فى أقل من 48 ساعة عرضاً شعرياً غنائياً عنوانه «مدد مدد.. ما تشدى حيلك يا بلد». والعرض أعده المخرج عبدالغفار عودة وأشعار زكى عمر والفرقة تتكون من عبدالسلام محمد وميرفت سعيد وفؤاد أحمد بالإضافة إلى محمد نوح وفرقة النهار التى قامت بالجانب الموسيقى والغنائى فى العرض، ليصبح كما قال الناقد- محمد بكير- زكى عمر شاعر نصر أكتوبر بلا منازع. ومن أعمال الراحل دواووين: «الحلم فى عز الضهر» و«ناس بتحب مصر» و«إلى من يهمه الأمر» و«قصائد للحب والمطاردة» ومواويل مصرية» و«حكاية عبدالفتاح الجندى» و«الولد زاكى» و«أنا أرجو من هيئة الكتاب إعادة طباعتها، لأنها تشكل حلقة من حلقات شعر العامية المصرية. - ما كانتش- الله يرحمها- تخاف، مخلوق - كانت تلعن «خاش» العمدة فى وشه - لكنها. كانت.. لما تقبض قرشه.. - علشان ما تنقّى «الدود» من أرضه. - ما كانتش بترضى تغشه. «القاهرة 2019» «قولاً واحداً لا فصال فيه، وهو أن أغنية مدد.. مدد كتبها زكى عمر، وأى قول غير ذلك هو مخالف للحقيقة». بهذه الكلمات جاء صوت السياسى البارز عبدالغفار شكر- بلدياته- عندما تحدثت معه عبر الهاتف. قلت له: التصريحات المنشورة والمتداولة فى وسائل الإعلام- على لسان الرحل الفنان محمد نوح- تؤكد أنها ليست له، وإن الذى كتبها هو الشاعر إبراهيم رضوان، بعدما التقى بالفنان محمد نوح على أحد مقاهى القاهرة وقدمها له، فرد «شكر» بحسم وانفعال قائلاً: هذا كذب.. وافتراء على الحقائق، وأنا هنا لا أهاجم أحداً، فيما هو منسوب إليه. لكننى أقول الحقيقة التى عشتها وسمعتها ورأيتها. والحقيقة تقول: نحن كنا فى نهايات عام 1972 عندما كان يصعد الشاعر زكى عمر على مسرح أوبرا المنصورة. قاطعته قائلاً: وهل كان فى المنصورة دار للأوبرا؟ قال: نعم.. كانت هناك أوبرا وتحولت بعد ثورة يوليو إلى مبنى للمطافئ ثم عادت فى السبعينيات إلى مسرح المنصورة، وعلى هذا المسرح شاهدت بعينى زكى عمر وهو يلقى قصيدته تلك.. وكانت الجماهير تهتف خلفه. وكان الراحل محمد نوح- فى البداية- لا ينكر حقه الأدبى والمادى فيها. ثم حدث- فيما أظن- بينهما خلاف، بسبب الحقوق المادية، وهذا الخلاف كان بداية افتراقهما عن العمل معاً. ومن الوارد أن يكون الشاعر إبراهيم رضوان قد أضاف بيتا أو أكثر، فهذا أمر لا أعرفه. لكن الحق أقول للتاريخ إن هذه الأغنية من كلمات زكى عمر، وأنا عندى القصيدة الأصلية التى تدعم ذلك القول. وأظن أن العائد المادى لم يكن هو الذى يعنى «ذكى عمر» ولكنه عدم ذكر اسمه بصفته كاتب الكلمات. - «يا مين يَعدّينى؟ - غريبة إنى أقول: يا مين يعدينى - أنا- ياما- صارعت البحر، بسِفينى لم جف عرقى.. ولا غسل العرق طينى» «المقطم 2019» أجلس ذات مساء، فى أحد الكافيهات أنتظر ابنته د. أمل- طبيبة نساء وولادة- بعد دقائق جاءت. قالت: كان أبى نموذجاً للقلب الطيب، والشهامة، والرجولة. فهو يجسد المصرى الأصيل الذى يحب هذا الوطن وناسه وترابه. سافر إلى اليمن، لأنه شعر بالغربة فى وطنه. الوطن الذى غنى له، وكتب وبكى وسُجن من أجله سنوات طويلة. فى اليمن الجنوبى أدركوا موهبته؛ فجعلوه يقوم بالإشراف على دار ناشر الهمدانى، وذاع صيته فى الأوساط الثقافية والسياسية الإعلامية، كان له برنامج أسبوعى فى الإذاعة وآخر فى التليفزيون. واهتم كثيرا بنا وعلمنا نحن بناته الثلاث «أمل- انتصار- سنابل» على حب الوطن رغم غربتنا معه. وأمدنا بالثقافة، والعلم، والتربية الصحيحة والسليمة، أعطانا الحرية فى كل شىء، بعدما وضع اقدامنا على الطريق الصحيح. وكانت أمى سنده فى الحياة والغربة معاً، وكثيراً ما رأيت الحزن فى عينيه بسبب بعده عن مصر التى عشقها منذ الصغر. كان يحب الناس ويستمع إلى أوجاعهم، وحكاياتهم، ومعاناتهم. وكانت أشعاره- وما زالت- صوت الفلاح المصرى؛ فهى تعبر عن واقعه، ومعاناته، وآماله، وأحلامه لأرضه ووطنه. قلت لها محاولاً استرجاع اللحظات الأخيرة فى حياته. سكتت ثم أخرجت من شنطة يدها ورقة صفراء اللون، وهى تحاول إخفاء ملامح وجهها خلف النظارة، التى ترتديها ثم قرأت أبيات شعر كتبها- فيما أعتقد- قبل رحيله جسد فيها مشهد رحيله قائلاً: فُينّكمْ يا أصحابى فُينّكمْ؟ يا رفاق الطريق عالشط رسّونى «فى البحر لم فُتكم، عالبر فتّونى؟ فُينكمْ؟ أنا فى عرضكم؟ فينكم؟ أنا بزعَقْ، باغطس- أنا- باشهق والشاعر أن يغرق والشاعر أن يغرق والشاعر أن يغرق ثم سحبت بيدها نظارتها السوداء- ولم تكمل القراءة- ومسحت بيدها الأخرى دمعة حائرة، ظلت تهاجمها ثم ودعتنى مسرعة وغادرت المكان. أمسكت أنا بالورقة التى تركتها سهواً على المنضدة أمامى وأكملت، كلماته الحزينة والمؤلمة التى قال فيها: - «تعالوا ناقشونى» - حا سأل.. و.. جاوبونى: - أزاى تكون الحياة- أزاى بدون شاعر؟ - أزاى تكون الحياة أزاى- بدون شاعر؟ وبعد هذه الرحلة الشائكة، والأسئلة الصامتة.. مات «زكى عمر» وحيداً، غريباً، غريقا، وبعيداً عن الوطن الذى أحبه، وتركنا- وترك الحياة- ننتظر الإجابة- وفيما يبدو أننا- سيطول بنا الانتظار!