الحمد لله القائل: {أفلا يروْن ألاّ يرْجِعُ اليْهِمْ قوْلاً ولا يمْلِكُ لهُمْ ضرًّا ولا نفْعًا}، وأصلي وأسلم على من أرسل رحمة للعالمين، أما بعدُ: ان الله بعث أنبياءه، وأرسل رسله، وأنزل كتبه، لمحاربة الشرك والتحذير من أهله، وقطع العلائق بذات المخلوقات. والتعلق بذات خالق المخلوقات، الله جل في علاه، تحقيقاً للعبادة له وحده، لا شريك له، قال تعالى: {وما خلقْتُ الجِنّ والانْس الا لِيعْبُدُونِ}[الذاريات: 56]، وقال تعالى: {واعْبُدُوا اللّه ولا تُشْرِكُوا بِهِ شيْئاً}[النساء: 36].فان حق الله على عباده التعلق بذات الله وحده، وألاّ يتعلّقُ أحدٌ بأي ذات، جماد كانت أو فيها حياة، فلا تعلُّق بذات العجول والأبقار، والأشجار والأحجار، ولا تعلق بمخلوق من الأحياء أو الأموات، قال تعالى: {ذلِكُمُ اللّهُ ربُّكُمْ لهُ الْمُلْكُ والّذِين تدْعُون مِنْ دُونِهِ ما يمْلِكُون مِنْ قِطْمِيرٍ ان تدْعُوهُمْ لا يسْمعُوا دُعاءكُمْ ولوْ سمِعُوا ما اسْتجابُوا لكُمْ ويوْم الْقِيامةِ يكْفُرُون بِشِرْكِكُمْ ولا يُنبِّئُك مِثْلُ خبِيرٍ}[فاطر: 13- 14]، فلا يتعلق بالأحياء من المشايخ والعلماء والأولياء، ولا الأموات من الأنبياء، ولا قبور الأموات الصالحين كوُد وسواع ويغوث ويعوق ونسر، قال تعالى: {وقالُوا لا تذرُنّ آلِهتكُمْ ولا تذرُنّ ودّاً ولا سُواعاً ولا يغُوث ويعُوق ونسْراً} [نوح: 23]، حتى ولو ادعوا ان مقصدهم هو التقرب بهذه المخلوقات الى الله، قال تعالى: {والّذِين اتّخذُوا مِنْ دُونِهِ أوْلِياء ما نعْبُدُهُمْ الا لِيُقرِّبُونا الى اللّهِ زُلْفى}[الزمر: 3]، والواجب على الخلق معرفة ان أمر الله عظيم، وعلى العباد الاتيان بعبودية خالصة لله عز وجل، قال تعالى: {هُو الْحيُّ لا اله الا هُو فادْعُوهُ مُخْلِصِين لهُ الدِّين الْحمْدُ لِلّهِ ربِّ الْعالمِين}[ غافر:65]. وقد ذكر الله عز وجل في كتابه العزيز مجملاً ومفصلاً قصص الأنبياء، قال تعالى: {نحْنُ نقُصُّ عليْك أحْسن الْقصصِ} [يوسف: 3]، وبين الدعوة للتوحيد، وصولة الحق وأهله على الباطل وأهله، قال تعالى: {فاذا جاء أمْرُ اللّهِ قُضِي بِالْحقِّ وخسِر هُنالِك الْمُبْطِلُون}، قال تعالى: {انّا أوْحيْنا اليْك كما أوْحيْنا الى نُوحٍ والنّبِيِّين مِنْ بعْدِهِ وأوْحيْنا الى ابْراهِيم واسماعِيل واسْحاق ويعْقُوب والأسْباطِ وعِيسى وأيُّوب ويُونُس وهارُون وسُليْمان وآتيْنا داوُود زبُورًا ورُسُلا قدْ قصصْناهُمْ عليْك مِنْ قبْلُ ورُسُلا لمْ نقْصُصْهُمْ عليْك وكلّم اللّهُ مُوسى تكْلِيمًا رُسُلا مُبشِّرِين ومُنْذِرِين لِئلا يكُون لِلنّاسِ على اللّهِ حُجّةٌ بعْد الرُّسُلِ وكان اللّهُ عزِيزًا حكِيمًا}[ النساء: 165-163]. قصة موسى مع قومه ومن هذا القصص قصة قوم موسى، فلقد أكرم الله تعالى بني اسرائيل بأنعام كثيرة وعظيمة، وقد كانوا مستضعفين في الأرض، قال تعالى: {انّ فِرْعوْن علا فِي الأرْضِ وجعل أهْلها شِيعًا يسْتضْعِفُ طائِفةً مِنْهُمْ يُذبِّحُ أبْناءهُمْ ويسْتحْيِي نِساءهُمْ انّهُ كان مِن الْمُفْسِدِين ونُرِيدُ ان نمُنّ على الّذِين اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ ونجْعلهُمْ أئِمّةً ونجْعلهُمُ الْوارِثِين}[القصص: 5-4]، فأرسل موسى عليه السلام في قومه بني اسرائيل، فدعا لعبادة الله وحده، لا شريك له، قال تعالى: {وقال مُوسى يا فِرْعوْنُ انِّي رسُولٌ مِنْ ربِّ الْعالمِين حقِيقٌ على ألا أقُول على اللّهِ الا الْحقّ قدْ جِئْتُكُمْ بِبيِّنةٍ مِنْ ربِّكُمْ فأرْسِلْ معِي بنِي اسْرائِيل}[الأعراف: 105-104]، وقال تعالى: {شرع لكُمْ مِن الدِّينِ ما وصّى بِهِ نُوحًا والّذِي أوْحيْنا اليْك وما وصّيْنا بِهِ ابْراهِيم ومُوسى وعِيسى ان أقِيمُوا الدِّين ولا تتفرّقُوا فِيهِ كبُر على الْمُشْرِكِين ما تدْعُوهُمْ اليْهِ اللّهُ يجْتبِي اليْهِ منْ يشاءُ ويهْدِي اليْهِ منْ يُنِيبُ}[الشورى: 13]، وقال: {وآتيْنا مُوسى الْكِتاب وجعلْناهُ هُدًى لِبنِي اسْرائِيل ألا تتّخِذُوا مِنْ دُونِي وكِيلا}[الاسراء: 2]، قال ابن سعدي في تفسيره: {وآتيْنا مُوسى الْكِتاب}: الذي هو التوراة، {وجعلْناهُ هُدًى لِبنِي اسْرائِيل}، يهتدون به في ظلمات الجهل الى العلم بالحق، {ألا تتّخِذُوا مِنْ دُونِي وكِيلا}، أي: وقلنا لهم ذلك، وأنزلنا اليهم الكتاب لذلك، ليعبدوا الله وحده، وينيبوا اليه، ويتخذوه وحده وكيلاً ومدبراً لهم، في أمر دينهم ودنياهم، ولا يتعلقوا بغيره من المخلوقين الذين لا يملكون شيئاً، ولا ينفعونهم بشيء.أ.ه. الانعام على قوم موسى بالايمان بالله وحده، والقوة بعد الاستضعاف لقد وجد قوم موسى الأمن بعد الخوف والمنعة بعد الضعف، وجعل الله منهم رسولا يهديهم للتي هي أقوم، قال تعالى: {واذْ قال مُوسى لِقوْمِهِ يا قوْمِ اذْكُرُوا نِعْمة اللّهِ عليْكُمْ اذْ جعل فِيكُمْ أنْبِياء وجعلكُمْ مُلُوكًا وآتاكُمْ ما لمْ يُؤْتِ أحدًا مِن الْعالمِين} - [المائدة: 20]. وقال تعالى: {وأوْرثْنا الْقوْم الّذِين كانُوا يُسْتضْعفُون مشارِق الأرْضِ ومغارِبها الّتِي باركْنا فِيها وتمّتْ كلِمةُ ربِّك الْحُسْنى على بنِي اسْرائِيل بِما صبرُوا ودمّرْنا ما كان يصْنعُ فِرْعوْنُ وقوْمُهُ وما كانُوا يعْرِشُون}[الأعراف: 137]، وفي قوله: {وتمّتْ كلِمةُ ربِّك الْحُسْنى على بنِي اسْرائِيل}، لم يُبيِّن ربنا تبارك وتعالى في هذا السياق من سورة الأعراف، تلك الكلمة الحسنى التي تمت على بني اسرائيل، ولكنه بينها في سورة القصص بقوله: {ونُرِيدُ ان نّمُنّ على الذين استضعفوا فِي الأرض ونجْعلهُمْ أئِمّةً ونجْعلهُمُ الوارثين ونُمكِّن لهُمْ فِي الأرض ونُرِي فِرْعوْن وهامان وجُنُودهُما مِنْهُمْ مّا كانُواْ يحْذرون}[القصص: 6-5]. انحراف القوم بعد نعمة الأمن والايمان قال تعالى: {وجاوزْنا بِبنِي اسْرائِيل الْبحْر فأتوْا على قوْمٍ يعْكُفُون على أصْنامٍ لهُمْ قالُوا يا مُوسى اجْعلْ لنا الهًا كما لهُمْ آلِهةٌ قال انّكُمْ قوْمٌ تجْهلُون ان هؤُلاءِ مُتبّرٌ ما هُمْ فِيهِ وباطِلٌ ما كانُوا يعْملُون قال أغيْر اللّهِ أبْغِيكُمْ الهًا وهُو فضّلكُمْ على الْعالمِين} [الأعراف:140-138]، قال المفسرون: قال الجهلة وحديثو العهد بالكفر من بني اسرائيل، لموسى عليه السلام، بعد مجاوزة البحر والنجاة، ورؤية عظيم الآيات من رب الأرض والسماوات، ومروا على قومٍ يعبدون أصناماً لهم: {أتوْا على قوْمٍ يعْكُفُون على أصْنامٍ لهُمْ}، قيل: كانت أصناماً تشبه البقر، فمازالت تلك الشبهة عالقة، وصورة قائمة في الأذهان، فكانت هذه الشبهة أول شأن عبادة العجل، وتأثروا بها حتى زُيِّن لهم عبادة العجل. النجاة في مفارقة أصحاب البدع والشبهات فالحرص...الحرص عباد الله! من التعرض والقرب من مواقع الفتن، والنأي بالنفس والابتعاد عن أصحاب البدع والشبهات، فان الشبه خطافة فلا تزال بصاحبها حتى تورده المهالك، ولما رآهم بنو اسرائيل على هذا الصنيع، {قالُوا يا مُوسى اجْعلْ لنا الهًا كما لهُمْ آلِهةٌ}، أي: شيئاً نعبده {كما لهُمْ آلِهةٌ}، كالذي يعبد هؤلاء القوم، ولقد طلب بعض الصحابة رضي الله عنهم - ممن كانوا حديثي عهد باسلام- الطلب ذاته، فشابهوا بني اسرائيل، وساروا على اثرهم، لما رواه أحمد في «المسند» واللفظ له {218/5}، والترمذي في «سننه»{2180} من حديث أبي واقدٍ الليثيِّ أنهم خرجوا عن مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى حُنين، قال: وكان للكفار سِدْرةٌ يعْكُفُون عندها، ويُعلِّقون بِها أسلحتهم يقال لها ذاتُ أنْواطٍ، قال: فمررنا بسِدْرةٍ خضراء عظيمة، قال: فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنْواطٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى: {اجْعلْ لنا الهًا كما لهُمْ آلِهةٌ قال انّكُمْ قوْمٌ تجْهلُون}، انها لسُننٌ لتركبُنّ سُنن من كان قبلكم سُنّةً سُنّة». وقال أبو عيسى: هذا حديث «حسن صحيح»، قلت: وهو كما قال. قول بني اسرائيل: {اجْعلْ لنا الهًا كما لهُمْ آلِهةٌ} شرك وكفر على الرغم من أنه لم يكن شكاً في وحدانية الله.قال البغوي في تفسيره: ولم يكن ذلك شكاً من بني اسرائيل في وحدانية الله، وانما معناه: اجعل لنا شيئاً نُعظِّمه، ونتقرب بتعظيمه الى الله عز وجل، وظنوا ان ذلك لا يضر الديانة، وكان ذلك لشدة جهلهم.اه وقوله: {قال انّكُمْ قوْمٌ تجْهلُون} وصف لهم بالجهل المطلق مؤكداً بان التوكيد، وقوله: {تجْهلُون}، أي: ان هذا الأمر في حقيقته جهل لعظمة الله، بعدما ظهر لهم من اليقين، ورأوا من آيات الله الكبرى والبينات العظمى مارأوا، بما كان كفيلاً بِكفِّ من لديه مُسْكة من علم عن طلب عبادة غبر الله.{ان هؤُلاءِ مُتبّرٌ} مدمر مهلك، {ما هُمْ فِيهِ} من عبادة محدثة وديانة مبتدعة، {وباطِلٌ ما كانُوا يعْملُون}، أي: المراد بطلان العمل وكل عبادة محدثة، وان قصدوا بذلك التقرب الى وجه الله تعالى، فكل عبادة وعمل ليست على نهج وطريقة الأنبياء والرسل، فلا أصل له في الدين، ولا نفع به.{قال أغيْر اللّهِ أبْغِيكُمْ الهًا}، أي: قال موسى: أبغي لكم وأطلب، {وهُو فضّلكُمْ على الْعالمِين}، أي: على العالمين في زمانكم.[وقال الألوسي في تفسيره: والمعنى: أغير المستحق للعبادة أطلب لكم معبوداً؟!]. قصة العجل... واتخاذهم العجل الهًا يعبدونه لا يملك ضراً ولا نفعاً، ولكل قوم أشركوا عجلاً بعد ان غاب موسى عليه السلام عن قومه أربعين ليلة بأمر من ربه، بدلوا الديانة وغيروا العبادة التي عهدهم عليها موسى عليه السلام، قال تعالى: {واذْ واعدْنا مُوسى أرْبعِين ليْلةً ثُمّ اتّخذْتُمُ الْعِجْل مِنْ بعْدِهِ وأنْتُمْ ظالِمُون}[البقرة: 51]، وقال تعالى: {ولقدْ جاءكُمْ مُوسى بِالْبيِّناتِ ثُمّ اتّخذْتُمُ الْعِجْل مِنْ بعْدِهِ وأنْتُمْ ظالِمُون واذْ أخذْنا مِيثاقكُمْ ورفعْنا فوْقكُمُ الطُّور خُذُوا ما آتيْناكُمْ بِقُوّةٍ واسمعُوا قالُوا سمِعْنا وعصيْنا وأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْل بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسما يأْمُرُكُمْ بِهِ ايمانُكُمْ ان كُنْتُمْ مُؤْمِنِين}[البقرة: 93-92].وقال تعالى: {ثُمّ اتّخذُوا الْعِجْل مِنْ بعْدِ ما جاءتْهُمُ الْبيِّناتُ}[النساء: 154]، وقال تعالى: {واتّخذ قوْمُ مُوسى مِنْ بعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جسدًا لهُ خُوارٌ ألمْ يروْا أنّهُ لا يُكلِّمُهُمْ ولا يهْدِيهِمْ سبِيلا اتّخذُوهُ وكانُوا ظالِمِين}[الأعراف: 148]. من انحرافات قوم موسى أنهم صنعوا عجلاً، وقاموا بعبادته من دون الله أو مع الله ويُستفاد من هذا القصص: أولا:-1 مخالفة قوم موسى لعبادة الأنبياء والرسل {موسى وهارون}. -2 اتخذوا ذاتا غير الله {عجلا}، وطلب الضر والنفع ممن لا يملك ضرا ولا نفعا. -3 تجاهلوا نعم الله الظاهرة العظيمة، وعبدوا واستعانوا وسألوا ما لا يستطيع نفع نفسه.-4 تنبيه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم حتى لا يقعوا في ما وقع فيه قوم موسى، فلا يتخذوا عجلاً وأشباه العجل من الأصنام والأحجار والأشجار وغيره من المخلوقات والذوات التي تعبد من دون الله قال تعالى: {لا تسْجُدُوا لِلشّمْسِ ولا لِلْقمرِ واسْجُدُوا لِلّهِ الّذِي خلقهُنّ ان كُنْتُمْ ايّاهُ تعْبُدُون} [فصلت: 37]. ثانياً:-1 دليل على تفشي الجهل في الأمم.-2 أثر الشبهات في الانحراف، فمازالت شبهة {اجْعلْ لنا الهًا كما لهُمْ آلِهةٌ} حتى اتخذوا في غيبة موسى الهًا عجلاً {ثُمّ اتّخذْتُمُ الْعِجْل}. -3 سهولة انتشار الخرافة، والتصديق بها، فتسارعوا في الوقوع فيها، {أعجِلْتُمْ أمْر ربِّكُمْ} [الأعراف: 150].-4 عدم الاستماع لنصح الناصحين، فلم يعبأ قوم موسى بهارون وطريقته ونصحه، قال تعالى: {وقال مُوسى لِأخِيهِ هارُون اخْلُفْنِي فِي قوْمِي وأصْلِحْ ولا تتّبِعْ سبِيل الْمُفْسِدِين} [الأعراف: 142]. ثالثاً: -1 المداومة على الدعوة الى التوحيد وتوجيه الناس الى عبادة الله وحده لا شريك له، ولذلك فرضت قراءة سورة الفاتحة المتضمنة التوحيد كله، ومنها {اياك نعبد واياك نستعين} في صلوات اليوم والليلة. -2 الاهتمام بالعلم ونشره وتعليم الناس الايمان وشعبه.-3 محاربة الجهل بكافة الوسائل المشروعة.-4 قطع مادة الوسائل المفضية الى الشرك.-5 اجتناب المحدثات والتحذير منها.-6 مجانبة أهل البدع وهجرهم، والابتعاد عن مواطن الشبه، وتفنيد الشبهات والتنبيه عليها.فاللهم انا نعوذ بك من ان نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم، والحمد لله على نعمة التوحيد.