يبدو أن الرئيس الراحل أنور السادات كان خبيراً في طبائع الشعوب.. وبالذات في طبيعة الأمة المصرية، ولهذا عرف كيف يسوس شعب مصر.. إلي حد أنه الرئيس الذي سمع بأذنيه الشتائم الموجهة إليه فكان كثيراً ما يبتسم وأحيانا ما كان يتألم، خصوصاً الشتائم التي كانت من نصيب أسرته.. ولهذا الرئيس رأي فيه كثير من القسوة في النخبة المصرية التي كانت تتكلم وقليلاً ما كانت تتفق.. وهم الذين أطلق عليهم الرئيس السادات الأفندية الذين كانوا يتجمعون في المقاهي والمنتديات.. يتحاورون لذات التحاور ليس أكثر. والنخبة المصرية الحالية يراها البعض من أهم اسباب مشاكل مصر.. إذ منذ قامت ثورة 25 يناير وهم يتحاورون حتي أنه ينطبق عليهم القول القديم «اتفقوا ألا يتفقوا»!! بدليل ما نحن فيه الآن من صراعات حوارية كارثية أدت بالبلد إلي كوارث متتالية. وهذه النخبة عجزت عن الاتفاق علي رأي واحد.. بل وحزب واحد سواء تلتف أو تلتقي حول حزب واحد من الأحزاب الليبرالية القديمة ومنها أحزاب ديمقراطية عريقة.. أو من الأحزاب الجديدة التي قامت بعد ثورة يناير.. وأظن أن عددها تجاوز الأربعين حزباً ليصبح عدد أحزاب مصر فوق الخمسين حزباً.. وسواء كان بعضها ينتمي إلي جماعات بعينها أو قامت لتعلن عن تيارات بذاتها. وثبت أن كل هذه الأحزاب وتلك ليست عند مستوي الثورة أو لم تستطع أن تستوعت الأفكار الجديدة، حتي تلك التي يقول البعض إنها نشأت من رحم هذه الثورة.. وإن كنت أشك في ذلك.. فالثورة كما قامت بدون رأس أو قائد، استمرت كذلك إلي الآن وبالتالي لم ينجح حزب واحد مما قيل إنه من أحزاب الثورة في اثبات وجوده في انتخابات البرلمان التي جرت منذ شهور قليلة. والنخبة، أو النخب، تنقسم علي نفسها وتتعدد فيها التيارات وبقيت- كلها بلا استثناء- تتصارع مع بعضها.. ومع نفسها حتي أكاد أقول إنها انقسمت علي نفسها وهي بالتالي لا تتفق علي شيء.. وبذلك تركت هذه النخبة الساحة السياسية لمن هم أكثر تنظيماً ووحدة وتحديداً للهدف النهائي.. الذي حققته، ووجهت لطمة شديدة للنخب السياسية في مصر.. فهل رفعت تلك النخبة الراية البيضاء وأعلنت استسلامها. الحقيقة المرة أن هذه النخبة المصرية هي من أهم اسباب الوكسة التي اصابت مصر.. حتي ولو كان ذلك انتصاراً للديمقراطية والذين يتباكون علي عدم فوز الفريق أحمد شفيق.. عليهم أن يلوموا تلك الديمقراطية التي جعلت نصف من لهم حق التصويت لم يذهب إلي صناديق التصويت.. كما أن حوالي 843 ألفاً من المصريين أبطلوا أصواتهم.. وهذه وتلك من مضار الديمقراطية!! ولكننا نلاحظ أن عدد المصوتين في انخفاض مستمر وإذا كان عددهم كان عظيماً في الاستفتاء علي الإعلان الدستوري، إلا أن عددهم انخفض في انتخابات مجلس الشعب ثم مجلس الشوري.. وها هم ينخفضون أيضاً في انتخابات رئاسة الجمهورية فهل سيعود المصريون -مرة أخري- إلي الجلوس في الظل ولا دور لهم في أي انتخابات.. وهل سيظل غالبية المصريين يهربون ويقاطعون الانتخابات حتي تستمر مأساة أن الحكم في مصر إنما هو للأقلية وليس للأغلبية، كما هي الانتخابات في أي دولة تملك ديمقراطية حقيقية. أغلب الظن أن المصريين يعودون سريعاً إلي التقوقع وإلي تفضيل الجلوس علي الكنبة في المدن.. أو علي المصاطب في القري والنجوع.. وأن عدد هؤلاء وهؤلاء أكثر من عدد الذين يمارسون حقهم الانتخابي. وإذا كنت احترم حق المواطن في أن يكون له رأيه.. فإنني أحترمه أكثر إذا ذهب وأدلي بصوته في الصناديق.. بالإيجاب وليس بالسلب فقد كانت هذه الثورة هي فرصتهم- وفرصتنا- في التغيير.. وإذا كان الشباب قد فتحوا لنا الابواب ونجحوا في اسقاط رأس النظام، فقد كان علي الجميع أن يتحرك أكثر لاسقاط باقي النظام.. ولكن الاغلبية جلست أمام شاشات التليفزيون تتابع مهرجان الحديث ومزادات الحوارات.. وتركت لغيرهم حق استخدام الديمقراطية لتقرير مصيرهم.. فكان ما كان وقام غيرهم بالتصويت بدلاً منهم لتجىء النتيجة التي نراها الآن. لقد خذلت النخبة شعبها واستمرت في الحوار ولا شيء غير الحوار إلي أن نجح من نجح وقفز إلي مقاعد الحكم كما نري. وإذا كانت انتخابات الرئاسة قد كشفت عجز النخبة السياسية في مصر عن أن يكون لها رأي، أو قرار فيما يجري.. فإن الإعلام المصري اندفع هو الآخر في معارك كلامية.. وكلما اندفع هؤلاء في الكلام.. انغمس غيرهم في العمل.. فقد كانوا أكثر فهما لطبيعة الأمة المصرية. ولم تسقط النخبة السياسية وحدها في هذه الانتخابات.. بل سقط منها الإعلام الذي اعتمد علي الكلام ولا شيء غيره وهكذا سنجد سريعاً من يصفق للناجح- ومعه كل فريق الناجحين- حتي ولو كان المصفقون الجدد.. هم هم نفس الذين صفقوا ضده حتي لحظات قليلة من إعلان النتائج الرسمية. وعلي أي حال.. حظ سيئ لمن لم يحالفه الحظ.. وحظ سعيد لمن نجح.. علي الاقل علي أمل أن تنجح مصر في عبور الخنادق العميقة التي تحيط بالوطن في هذه الظروف الصعبة.