وكأن التاريخ لا يريد أن يتغير.. الإخوان والعسكر يسيرون على طريق أزمة مارس 1954 ويخوضون الآن معركة البقاء، فكل منهم يقاتل من أجل أن يحافظ على مكتسبات المرحلة الانتقالية، فالصدام بينهما ليس سببه كرسي الرئاسة فقط، ولكنهم يتصارعون على مفاصل الدولة وتثبيت شرعيته في الحكم. العسكر لاعبوا الإخوان بسياسة التمكين ونفذوا بعدها انقلاباً ناعماً سحب السلطة كلها من أيدي الإخوان، عكس ما حدث في مارس 1954 عندما لجأ ضباط يوليو الي الصدام العنيف وحل الجماعة وسجن قياداتها عقب حادثة المنشية. الدولة أصبحت بين فكي الجماعة والعسكر، كلاهما لديه أوراق اللعبة فالجماعة تغازل الثوار وتراهن على ضغط شعبي يجبر المجلس على تنفيذ رغباتها، وتقوم بضربات استباقية لتحقيق مكاسب سياسية على أرض العسكر، فيما يلاعب جنرالات العسكري الإخوان بالقوى المدنية الرافضة للدولة الدينية وشرعية الحكم التي مازالت تحت تصرفهم حتى 30 يونيو القادم وهو موعد تسليم السلطة. «العسكري» يملك حل الجماعة وحزب الحرية والعدالة، والإخوان يمكنهم تعجيز المجلس العسكري وتقليص سلطاته وتقليم أظافره، ويبقى الصراع بينهما رهينة التوافق السياسي، فالجماعة لن تلجأ الى العنف المسلح وسيناريو 1954 و1965 أمامها.. وتبقى حقيقة واحدة وهى الشلل التام والفوضى كنتيجة منطقية لهذا الصراع، فكل منهما يملك سلطة والضحية في النهاية هو المواطن الذي آمن بالثورة وعلق عليها آمالا لانتشاله من مستنقع الأزمات، ولكنه وجد نفسه رهينة صراع سياسي بين قوتين يمتلكان أسلحة سياسية قاتلة. يوليو ويناير حرق الجماعة في أحضان الثورة إذا كان جنرالات يناير مارسوا أسلوب التمكين لحرق الإخوان ثم اجهزوا عليها بعدما فقدوا التأييد الشعبي فإن ضباط يوليو 1952 استخدموا الصدام المباشر بعد حادث المنشية وقاموا بحل الجماعة واعتقال كوادرها.. العسكر فى الثورتين استخدموا الجماعة لتثبيت قدمهم فى الحكم لمدة عامين ثم انقلبوا عليها مستندين إلى جبهة الرافضين للدولة الدينية فيما تغازل «الجماعة» الثوار لكسب معركة يناير. من يقرأ التاريخ يجد اجابات المستقبل حاضرة.. ومن يريد أن يعرف نهاية الأزمة التى تعيشها البلاد الآن يعود إلى ما حدث بعد ثورة 1952 وسيجد أن المشهد السياسى لم يتغير على الاطلاق نفس القوى السياسية والمؤسسات تتصارع وقواعد اللعبة متشابهة وتفاصيل الأحداث تبدو واحدة ولكن مع اختلاف الوجوه فمصر بعد ثورة يناير 2011 لن تتغير عن ما بعد 1952.. العسكر والإخوان هما اللاعبان الاساسيان فى الصراع على السلطة. بعد ثورة 1952 انتهى الصراع بهزيمة ساحقة للجماعة ويبدو أن نفس النتيجة ستكون نهاية المباراة السياسية بينهما بعد ثورة يناير 2010، ورغم وصول الدكتور محمد مرسى الى كرسى الرئاسة إلا أنه أصبح معلقاً فى رقبة المجلس العسكرى لا يستطيع التحرك إلا بعد الحصول على إشارة منه. العسكر فى يناير 2011 تعاملوا مع الإخوان بأسلوب مختلف عما جرى فى عام 1952 فهو استخدم سياسة التمكين واخراج الجماعة من تحت الأرض بعد ثورة يناير وأظهر الجانب السيئ فيها فهو يدرك جيدا شهية الإخوان ومطامعها فى السلطة فقام بتمكينها من البرلمان وأخرج قاداتها من السجون وترك الجماعة تحرق نفسها فى الشارع حتى فقدت جانباً كبيراً من شعبيتها والتعاطف معها ثم قام بالإجهاز عليها ويدير الآن المرحلة النهائية من مخطط التخلص منها فيما يشبه الصدام الناعم بينهما. عكس ما جرى فى ثورة يناير حيث لجأ الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلى الصدام المباشر بينهما وقام بحل الجماعة فى 1954 عقب حادثة المنشية وأغلق مركزها العام واتهم أعضاءها بتدبير محاولة اغتيال الرئيس والتآمر على نظام الحكم واعتقل 450 من كوادر الإخوان وكانت تلك الضربة القاصمة للجماعة والتى لم تفق منها إلا بعد سنوات. العسكر فى مباراته مع الإخوان فى الثورتين حاول احتواءهم بل قدم لهم مساعدات وبعد عامين نفذ خطة التخلص. فى ثورة يناير انتظر عامين للتخلص من الجماعة وبدأ المخطط فى 2012 وفى ثورة يوليو انتظر العسكر عامين ايضا بعدها بدأ الصدام المباشر مع الجماعة فيما يعرف بأزمة مارس 1954. فبعد ثورة يوليو تقرب عبد الناصر إلى جماعة الإخوان المسلمين لمدة عامين بعدها تم الصدام فى عام 1954 ففى صبيحة يوم الثورة استدعى حسن العشماوى أحد قيادات الإخوان الى مقر قيادة الثورة لإعلان تأييده للثورة وبعد يومين غازل عبد الناصر الإخوان وقام بفتح التحقيق فى مقتل حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين وقدم المتهمين الى المحاكمة. وبعد عدة أيام طلب مجلس قيادة الثورة من على باشا ماهر إصدار عفو شامل عن المعتقلين السياسيين من جماعة الإخوان المسلمين وبالفعل افرج عن عدد كبير من قياداتها وعندما بدأ محمد نجيب تشكيل الوزارة جرت مفاوضات لإشراك الإخوان فيها ولم تنته المفاوضات الى نتيجة واضحة فكان هناك اصرار من العسكر على ان تتولى الجماعة ثلاثة مقاعد فقط ورفضت واشترك فيها احمد حسن الباقورى وفصل من الجماعة بعد ذلك. وبعد عام من قيام ثورة يوليو 1952 بدأ الصدام المرن فى بدايته بين العسكر والإخوان فبعد قرار حل الإخوان رفض عبد الناصر طلب قيادات الجماعة بالاشتراك فى الوزارة وقدم له عرضاً أيضا بتكوين لجنة من هيئة الإخوان تعرض عليها القوانين قبل صدورها فرفض عبد الناصر بشدة وبعدها بدأ المرشد العام للجماعة يهاجم الثورة فى الاعلام. وفى بداية 1954 اشتد الصدام بين الإخوان والعسكر خاصة مع اتهام الجنرالات لقادة الجماعة بوجود اتصالات بينهم وبين الانجليز فى تلك الفترة وهو ما يظهر الدولة بشكل منقسم وبعدها جرى اتهام الجماعة ببث نشاطها داخل الجيش إلا أن وقعت أحداث المنشية وأصبح الصدام بين العسكر والإخوان عنيفا ادى الى حل الجماعة واعتقال قياداتها. واصطدم العسكر والإخوان بعد عامين فى اندلاع ثورة يناير 2011 واتبعوا نفس سيناريو 1952 فى البداية حيث جرى تفاهم بينهم بعد اندلاع الثورة وعقد المشير طنطاوى لقاءات مع قيادات الجماعة الذين حضروا جلسات الحوار الوطنى وبدا للجميع فى البداية أن هناك صفقة بين الإخوان والعسكر خاصة أن الجماعة ساندت العسكرى وضمت عدداً من اعضائها فى لجنة صياغة الدستور التى وضعت الاعلان الدستورى الذى منح شرعية لحكم العسكر ودافعت الجماعة عن العسكر ولم تشارك فى أى مليونية ضده بل وقامت بتشويه الثوار. بدأ «العسكرى» بعدها فى تنفيذ مخطط التخلص من الجماعة فقام بإخراجها من حالة العزلة السياسية التى فرضها النظام السابق عليها وأخرج قيادات الإخوان من السجون ومنحها ترخيصاً لحزب باسم الحرية والعدالة وترك الجماعة تحرق نفسها فى الشارع سواء بتصريحات مخيفة للمدنيين او بمساعدتها فى الحصول على أغلبية البرلمان بالتغاضى عن المخالفات الانتخابية والدعاية الدينية التى مارستها. وبعد تولى الجماعة أغلبية البرلمان اشتبكت مع كل القوى السياسية وبدأت فى حرق نفسها فى الشارع فقام العسكرى بالإجهاز عليها على الفور فقامت المحكمة الدستورية بحل البرلمان ففقدت الجانب الاهم من سلطاتها حتى بعد أن وصل مرشح الجماعة محمد مرسى إلى كرسى الرئاسة سلب منه العسكرى كل سلطاته بإعلان دستورى مكمل فأصبحت الجماعة التى كانت تملك السلطة التشريعية والتنفيذية تدير ولا تحكم ولا تملك أى سلطات. نهاية مباراة الإخوان والعسكر بعد ثورة يناير لم تنته حتى الآن وكل منهما يراهن على كروت اللعبة التى يمتلكها فالإخوان يملكون الشارع وبعض القوى الثورية التى تتظاهر فى التحرير الان اعتراضا على الاعلان المكمل وفى الوقت نفسه العسكر مازال يملك السلطة وتأييد بعض القوى المدنية التى تخشى من مصير الدولة الدينية ويعلقون آمالا على امتلاك الاغلبية فى البرلمان القادم لصد هجوم الإخوان على الدولة وسيحسم نتيجة المباراة بينهما مدى تأثير الكروت التى يملكها كل طرف فى يده. العسكر لا يستطيعون استخدام سياسة الصدام العنيف مع الإخوان الآن مثلما حدث فى عام 1952 فوضعية العسكر فى السلطة مختلفة فثورة يناير قامت فى الأساس اعتراضا على حكم العسكر فمبارك كان يمثل امتدادا للدولة العسكرية التى قامت منذ ثورة 1952 ولكن العسكر اضطروا الى التضحية بمبارك من أجل البقاء فى السلطة ولو فى مرحلة انتقالية عكس ما حدث فى عام 1952 فالعسكر أنفسهم هم الذين قاموا بالثورة فكان من الصعب اللجوء الى الصدام العنيف مع الجماعة حتى لا تحدث ثورة جديدة علية خاصة ان معظم القوى السياسية كانت ستساند الجماعة. فالعسكرى عمل منذ توليه الحكم على تهدئة الحالة الثورية التى انتابت الشارع ولم يكن من المعقول ان يدخل فى صدام مباشر مع الإخوان وانتظر لمدة عامين فقدوا خلالها مزيداً من التعاطف الشعبى والتأييد والدليل فقدها لنصف الأصوات التى حصلوا عليها فى انتخابات البرلمان فى المرحلة الاولى من انتخابات الرئاسة أما فى 1952 فالعسكر كانوا قد امتلكوا السلطة من الملك فاروق عبر ثورة كانوا فى حاجة إلى تأييد شعبى لها فحدثت تفاهمات أخرى مع الجماعة حتى تعلن تأييدها لثورة يوليو ولكن عندما هاجمت الجماعة العسكر والثورة جرى الاعداد لمخطط التخلص منها ولكن انتظر العسكر عامين أيضا حتى يثبت ثوار يوليو أقدامهم فى الحكم. صراع العسكر والإخوان فى الثورثين كان على السلطة فجماعة الإخوان كانت ترى فى نفسها القوة القادرة على الوصول إلى السلطة عقب أى ثورة فبعد ثورة يوليو كانت تجهز نفسها للوصول الى الحكم وكانت تضغط على الضباط من اجل تسليم السلطة الى المدنيين وهو نفس ما حدث بعد ثورة يناير ولكن العسكر وقفوا بالمرصاد وطمعوا فى السلطة واستولوا عليها. العسكر فى الثورتين وضعوا خطة الحرق فى الشارع وساعدتهم الجماعة فى تنفيذ السيناريو فالجماعة التى بادرت بالقول إنها لن تنافس سوى على 50 % من المقاعد ولن تقدم مرشحا للرئاسة ثم انقلبت على تصريحاتها كما أنها أكدت أنها تسعى الى تحقيق مصالح الثورة فى الوقت الذى حرصت فيه على مصالحها فقط عندما حصدت اغلبية البرلمان. وقبل الانتخابات البرلمانية كانت الجماعة تؤكد ان الشرعية فى ميدان التحرير ولكن بعد ان حصدت الاغلبية قالت ان الشرعية داخل البرلمان وبعد حله عادت الى حضن الثورة لتجد مزيداً من الجفاء فى علاقتها بالقوى السياسية والثورية بعد أن تخلت عنهم فيه البداية. الإخوان لا يتعلمون من دروس التاريخ ويصرون ان يعيشون نفس الاجواء السابقة فالتحذيرات التى أطلقها السياسيون للجماعة من تكرار سيناريو 1954 وأبعادها عن السلطة عديدة ولكن قادة الإخوان اصروا على ان يخاصموا الشارع والقوى السياسية من أجل مساندة العسكر حتى أصبحوا الآن القوة الوحيدة فى مواجهتهم «واللى يحضر العسكر يصرفه».