فكرة البنك الوطنى نامت ثمانين عاما وأيقظتها الثورة وحولتها إلى واقع حى سعد زغلول رد على ضربات الاحتلال بسحب ودائع المصريين من المصارف الإنجليزية الأجانب كانوا يسيطرون على 90 % من حجم الاقتصاد المصرى أوائل القرن العشرين بنك مصر أنشأ عشرات الشركات فى مجالات الصناعة والتجارة والطيران والسينما لم تكن ثورة 1919 تأسيسا لمبادئ القومية المصرية وحدها، لم تكن غرسا للوحدة الوطنية في اسمى معانيها بحسب، لم تكن ميلادا لزعامات تاريخية تؤمن أن القوة الحقيقية هي قوة الأمة وأن الشرعية الوحيدة هي للوحدة الوطنية فقط، وإنما كانت كذلك ميلادا للاقتصاد المصري بسماته الذاتية. وهو اقتصاد مستقل تماما عن اقتصاد الاحتلال يتطور ويتقدم وينمو من خلال إيمان راسخ بأن مصلحة مصر هي محركه. وهكذا فلولا ثورة 1919 لما كان بنك مصر، وربما ما عرفنا رجلا عظيما اسمه طلعت حرب. إن تجربة اقامة بنك وطنى مصرى لم تكن لتتحقق لولا اشتعال الثورة. ولاشك اننا لا نقلل من شخصية اقتصادى عظيم مثل طلعت حرب، ولكننا نؤكد كما يؤكد كل من كتب عن الرجل ان العظمة وحدها ليست كفيلة بتحقيق احلام الامم. إن الاحداث المحيطة تلعب دورا بارزا فى تفعيل افكار عظيمة ونقلها الى الواقع الحى. لقد كانت فكرة انشاء بنك مصرى وطنى مطروحة قبل ثورة 1919،بل وقبل ميلاد طلعت حرب نفسه. ربما ترجع الفكرة الى عهد محمد على باشا، والذى أنشأ أول بنك قومى باسم بنك مصر وإن كان يختلف تماما عن فكرة البنك التى نعرفها فى الوقت الحالى. لقد كان البنك وقتها اداة تنفيذية لتشغيل المشروعات التى تقيمها الدولة وله سلطة فى تسعير العملات والاوزان وقد أنشىء البنك برأسمال 700 الف ريال دفعت مصر منها 400 الف ريال ودفع رجال اعمال اجانب ال300 الف الباقية. ولم يستمر ذلك البنك طويلا فمع انهيار أحلام دولة محمد على عقب اتفاقية لندن 1840 تجمدت كثير من مشروعاته ومن بينها البنك البدائى. فيما بعد ومع تزايد اعداد الاجانب فى مصر خلال عهد الخديو اسماعيل أنشئت عدة بنوك اجنبية قامت على فكرة الاقراض بالربا وسيطر على معظمها الاجانب المقيمون فى مصر واليهود. وظلت فكرة انشاء بنك مصرى تطل بين الحين والحين،خاصة ان الاجانب كانوا يحتكرون كافة الانشطة المالية فى مصر. وفى عام 1879 كتب امين شميل مقالا فى جريدة التجارة دعا فيها الى ضرورة انشاء بنك مصرى يرعى المشروعات المصرية ويشجعها ويمولها. ولاقت الفكرة تحمس عدد من الاعيان مثل عمر لطفى باشا، ومحمد سلطان باشا وحاولوا اتخاذ اجراءات فعلية لانشاء البنك،الا ان عدم تحمس المصريين اصابهم باليأس وبقيت الفكرة فى قلوب واذهان اصحابها الا ان رحلوا. وفى عام 1911 نشر طلعت حرب كتابا صغيرا بعنوان « علاج مصر الاقتصادى » تحدث فيه صراحة عن البنك الوطنى الذى لابد من انشائه. وقال الرجل « مازالت الحاجة لانشاء مصرف مصرى حقيقى يعمل بجانب المصارف الموجودة ويحثهم على المشاركة فى قطاعات التجارة والصناعة». ولاقى الكتاب والفكرة قبولا واسعا مع تعاظم المد الوطنى الذى صاحب الحرب العالمية الاولى وانشاء عصبة الأمم. لقد استيقظ الضمير الوطنى ورأى ان عليه ان يحرر بلده من المستعمر ويستعيد حقوقه المسلوبة. ويذكر المؤرخ الاستاذ لمعى المطيعى ان نسبة الاموال الاجنبية العاملة فى مصر تزيد على 90 % من اجمالى الاموال. وكان الاجانب يستثمرون 62 % من اموالهم فى الزراعة و6 % فقط فى الصناعة و32 % فى انشطة أخرى. ويضيف المؤرخ ان ثورة 1919 اشعلت روح الاستقلال الاقتصادى المصاحب للتحرر من نير الاستعمار. إن الثورة فى رأيه هى أول ثورة قومية بالمعنى الحديث تعبر عن انتقال الشعب المصرى من ايديولوجية الولاء للدولة العثمانية الى القومية المصرية. ولقد كانت اول ثورة تتجمع فيها جميع عناصر القومية من عمال وفلاحين وتجار وصناع وكبار الملاك والرأسماليين. لقد أحيت الثورة فكرة الاستقلال الاقتصادى وكان على المصريين ان يدفعوا بقوة فى تحويل حلم البنك الوطنى الى حقيقة. وقد كان. فى 8 مارس 1920 أسس كل من احمد يكن باشا، محمد طلعت حرب بك،عبد المجيد السويفى بك،عباس دسوقى الخطيب والدكتور فؤاد سلطان شركة مساهمة مصرية تحت اسم «بنك مصر ». ولقد سارع 126 مصريا فى الاكتتاب فى رأسمال البنك البالغ 80 الف جنيه وكانت البداية. وفى 7 مايو عام 1920 اعلن رسميا قيام البنك. لقد ظلت الفكرة ثمانين عاما على الورق قبل ان تنتقل الى الواقع بعد ثورة 1919. ولقد أسهم حزب الوفد بقيادة سعد باشا زغلول فى تشجيع المصريين للانضمام للمشروع الوطنى. ويذكر لمعى المطيعى ان سعد باشا زغلول توقع فى ديسمبر عام 1921 ان يوجه الاحتلال البريطانى ضربة الى الوفد فبعث برسالة الى حمد الباسل يخبره فيها ان الرد يجب ان يكون مقاطعة البنوك والشركات الانجليزية وتشجيع بنك مصر. وبالفعل اعتقلت سلطات الاحتلال سعد باشا فما كان من الوفد الا ان اصدر بيانا دعا فيه الى سحب الودائع من المصارف الانجليزية والاقبال على شراء اسهم بنك مصر. ووقع على البيان حمد الباسل، ويصا واصف، جورج خياط، مرقص حنا، علوى الجزار، مراد الشريعى، واصف غالى، وجن جنون الانجليز وقبضوا على موقعى البيان واصدروا حكما باعدامهم.. وعلى الجانب الآخر واجه طلعت حرب اتهامات عديدة بعدم الواقعية والافراط فى الأمل وتغلب على احباطات كثير من الاقتصاديين الذين كانوا يرون ان فكرة البنك لن تنجح. وكان يرد على منيتهم مصر بالفقر فى خبراء البنوك قائلا « قيل لنابليون عندما وضع فكرة بنك فرنسا انه ليس فى فرنسا رجال ماليون، خبيرون باعمال البنوك فقال لهم : هذه طائفة يجب خلقها وبالفعل تم صناعتهم واصبحت فرنسا يضرب بها المثل فى الخبرات المالية والمصرفية». لقد بدأ بنك مصر عام 1920 برأسمال قدره 80 الف جنيه وفى سنة 1925 ارتفع رأسمال البنك الى نصف مليون جنيه، ثم الى مليون جنيه عام 1927. وحقق البنك احلام المصريين فى انشاء مشروعات تجارية وصناعية وزراعية وخدمية مصرية خالصة. ففى سنة 1922 أسس البنك مطبعة مصر برأسمال 30 الف جنيه زاد الى 50 الف جنيه. وفى سنة 1924 أسس شركة مصر لحليج الأقطان برأس مال قدره 30 الف جنيه زيد الى ربع مليون جنيه. وفى العام التالى أسس شركة مصر للنقل والملاحة برأسمال قدره 40 الف جنيه، وفى العام نفسه أسست شركة مصر للتمثيل والسينما برأس مال 15 الف جنيه زيد الى 75 الف جنيه ، وفى عام 1927 أسس البنك شركة مصر لنسج الحرير برأسمال قدره 10 آلاف جنيه زيد فيما بعد الى ربع مليون جنيه. وفى نفس العام تم تأسيس شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة برأسمال 300 الف جنيه زيد الى مليون جنيه. كما تم تأسيس شركة مصر لمصايد الاسماك برأسمال 20 الف جنيه زيد الى 75 الف جنيه. ثم أسست شركة مصر للكتان برأسمال قدره عشرة آلاف جنيه زيد الى 45 الف جنيه. وفى عام 1930 أسست شركة مصر لتصدير الاقطان برأسمال 120 الف جنيه زيد الى 160 الف جنيه وفى 1932 أسس البنك مصر للطيران برأسمال 20 الف جنيه زيد الى 80 الف جنيه. كما أسست شركة بيع المصنوعات برأسمال خمسة آلاف زيد الى 80 الف جنيه. وفى عام 1934 أسست شركة مصر للتأمين برأسمال قدره 200 الف جنيه. كما أسست شركات مصر للملاحة، ومصر للسياحة، ومصر لدباغة الجلود، ومصر للغزل بكفر الدوار، ومصر للمناجم، ومصر لصناعة وتجارة الزيوت.