الكاتب والروائي الكبير علاء الأسواني نشر أمس في جريدة المصري اليوم مقالا بعنوان «ظاهرة المواطن المستأنس»، حكي فيها عن واقعه بإحدى الهيئات الحكومية منذ عشرين سنة (بداية التسعينيات)، كان الأسواني موظفا بالهيئة وطرفا فيها، الأسواني استشهد بهذه الواقعة لكى يدلل للقارئ أن الفئة الصامتة (المستأنسة) التى شاهدت الثورة في التليفزيون هم مثل الموظف بطل الواقعة التي ذكرها، فاسدون وانتهازيون وبدون كرامة ويخونون الثورة من أجل مصالحهم الانتهازية الواقعة ببساطة: كان الأديب الكبير فى بداية التسعينيات يعمل طبيبا للأسنان في عيادة إحدى الهيئات الحكومية، فى أحد الأيام كان يحشو ضرس أحد الموظفين، دخل عليه مدير أمن الهيئة وطلب منه أن يصرف الموظف المريض لكى يستقبل رئيس الهيئة، استسمحه الأسواني أن يمهله نصف ساعة ليتمم علاجه، رفض مسئول الأمن، وأكد أن رئيس الهيئة فى طريقه للعيادة، ونشبت مشادة كلامية قال فيها الأسواني: «أنا لا أعمل عند رئيس الهيئة، وإنما أعمل في هيئة حكومية هو رئيسها»، وأصر مسئول الأمن وأمره ان يصرف المريض، وسط هذه المشادة رحب الموظف بأن يترك دوره لرئيس المصلحة ووقف مع مسئول الأمن لكى يستقبل المدير، الأسواني علق على تصرف الموظف بقوله: «أحسست بإحباط بالغ من موقف الموظف. لقد حاولت أن أدافع عن كرامته، لكنه خذلني ورحب بالمعاملة المهينة من رئيس الهيئة.. لقد اتخذت الموقف الصحيح، لكن هذا الموظف تعود على المهانة. إن التمسك بالكرامة فى نظره نوع من الحماقة أو الجنون وهو لم يعد يرى أبعد من مصالحه المادية: إن التزلف إلى رئيس الهيئة سيدر عليه العلاوات والامتيازات، بينما الدفاع عن الحق سيكلفه ثمناً باهظاً لا يطيقه ولا يريده». هذه الواقعة استدعاها الكاتب الكبير علاء الأسواني من التسعينيات لكي يوضح لنا أن أمثال هذا الموظف هم الذين يطعنون الثورة، فالأسواني يرى أن المصريين ثلاث فئات، الثوريون وهم الوطنيون الشرفاء الذين انتفضوا لكرامتهم ضد الظلم والمهانة والقهر، والفلول: وهم الساقطون أتباع النظام الفاسد، والمستأنسون: وهم الانتهازيون الفاسدون «صنعوا شبكات الفساد الخاصة بهم التى مكنتهم من كسب الأموال بطريقة غير قانونية». الواقعة التي استدعاها الأسواني من ذاكرته التسعينية توضح أن الأسواني وهو أديب كبير يرى الواقع من خلال نافذة ضيقة ومنحرفة الزوايا، هذه النافذة صنعت بشيفونية حادة، فالواقعة ليست كما فهمها ولا كما صورها، وبتفاصيلها هذه تدين الأديب الكبير أكثر مما تشين الموظف البسيط المستأنس، والأسواني لم يدرك جيدا أن الإهانة كانت موجهة إليه وليس للموظف المستأنس، وكان على الأسواني أن يدافع عن كرامته وهيبة وظيفته وحرمة عيادته، لكن الأسواني تهرب من مواجهة هذه الحقيقة، والمدهش أن الكاتب الكبير قام بارتداء ثوب البطل الذى حاول أن يدافع عن كرامة وحق الموظف المستأنس، وشعر بالصدمة كبطل وكثائر عندما تنازل هذا المستأنس عن حقوقه وقبل المهانة. الذى يعود للواقعة كما استدعاها الكاتب الكبير سيتضح له أن المعركة كانت معركة طبيب الأسنان (الأسوانى) وليست معركة المريض، لماذا؟، لأن الطبيب هو المسئول عن العيادة وعن المرضى المتواجدين بها، والطبيب هو الذي يضع قواعد العمل بالعيادة، مسئول الأمن خرق هذه القواعد واقتحم العيادة وغرفة الطبيب وهذه إهانة للطبيب، ومسئول الأمن أمر الطبيب ان يصرف المريض، وهذه إهانة أيضا للمريض، ورئيس الهيئة عمل الأسوأ مع الطبيب، تجاهل قواعد الطبيب والعيادة، وتعامل معه مثلما يتعامل مع الخادم والعبد أو الحلاق يذهب إلى محله متى شاء، رئيس الهيئة اتصل بمسئول الأمن وأخبره بخط سيره، ولم يتصل بالطبيب (حتى من خلال سكرتيرته) بأنه فى الطريق للعيادة، ورئيس الهيئة دخل وجلس للعلاج دون أن يستأذن الطبيب، وكل هذا إهانة للطبيب، ماذا فعل طبيب الأسنان؟، تجاهل وتعامى تماما عن الإهانة، وقام بإزاحتها عن ذاته وكرامته وألصقها بالمريض الذى يعالج فى حرمته، والمدهش أن الطبيب سلك سلوكا أسوأ مما قام به الموظف، ماذا فعل؟، استقبل رئيس الهيئة وعالج أسنانه، مع أن البطولة والكرامة والنخوة كانت تقتضى في واقعة مثل هذه أن يرفض الطبيب معالجة رئيس الهيئة، لأنه لم يلتزم بقواعد الطبيب، كما كان عليه أن يثور ويرفض أن يعامله رئيس الهيئة معاملة الخادم والعبد والحلاق، لكن للأسف (مع كل الاحترام والتقدير للأديب الكبير) قبل الطبيب أن يكون مثل الحلاق والخادم وأطاع مثل العبيد.