[جلال عارف يكتب:بين ميادين الثورة وأحكام القضاء] جلال عارف طرفان يحكمان الأحداث في مصر في هذه الأيام العاصفة، من ناحية.. الميادين التي عادت لها روح الثورة، ومن ناحية ثانية القضاء المصري بأحكامه التي تعيد صياغة المشهد السياسي. اشتعلت الميادين من جديد بعد صدور الحكم في قضية الرئيس السابق مبارك. ولم يكن الغضب الشعبي بسبب الحكم على مبارك نفسه بالسجن المؤبد والذي جاء أشد من المتوقع في ظل الاتهامات الموجهة له وضعف الأدلة المقدمة لإثباتها. ولكن الغضب جاء من براءة كانت متوقعة للابن الذي كان يستعد لوراثة الحكم جمال مبارك والمتهم حتى من أعمدة النظام السابق بأنه السبب في انهيار النظام، بينما كانت كل التهم الموجهة إليه في هذه القضية هي الحصول على فيلل بأقل من سعرها!! أما السبب الأهم للغضب الشعبي فكان براءة كبار المسؤولين من رجال وزارة الداخلية رغم إدانة وزيرهم والحكم عليه بالسجن المؤبد. ليبقى من قتل شهداء الثورة مجهولاً، خاصة أن هذا لم يكن الحكم الوحيد بهذا الشأن بل سبقه ما يقرب من عشرين حكما مشابها!. رد الفعل على الحكم القضائي ترافق مع آثار نتائج المرحلة الأولى لانتخابات الرئاسة. وفي الميادين اختلطت هذه المرة الكثير من الأوراق.. شباب يشعرون أنهم خارج اللعبة رغم كل التضحيات التي قدموها. وشهداء يبحثون عن قاتليهم، وتيار ثالث بدأ يتكون ليجسد الثورة بعيداً عن الاستقطاب الحالي بين الحكم العسكري والحكم الديني. وفرقاء يتصورون أن الحكم القضائي أعطاهم فرصة لحسم انتخابات الرئاسة التي لا يعرف أحد الآن هل ستتم جولتها النهائية أم لا، بعد أن أصبح الأمر معلقاً بحكم قضائي آخر من المحكمة الدستورية العليا التي اختارت أن تصدر قرارها الذي يحدد شرعية وجود احمد شفيق في سباق الرئاسة أم خروجه منه قبل يومين فقط من الموعد المحدد لانتخابات الإعادة، حين تصدر قرارها بمدى دستورية قانون العزل السياسي الذي أصدره البرلمان الحالي أساسا لمنع نائب الرئيس السابق عمر سليمان من الترشح للرئاسة. إذا قضت المحكمة بعدم دستورية القانون فستمضي الانتخابات في طريقها وتؤجل المواجهات لما بعد انتخاب الرئيس أياً كان! أما إذا قضت المحكمة بدستورية القانون فسيتم استبعاد شفيق وستؤجل الانتخابات او تلغى، وسيتم البحث في البديل، وهل سيكون استفتاء على المرشح الباقي وحده.. وهذا مستبعد، أم يعاد فتح باب الترشيح من البداية.. أم تقتصر المنافسة على المرشحين الذين خاضوا المرحلة الأولى ما عدا شفيق ؟ لكن ذلك ليس كل شيء.. ففي نفس اليوم ستصدر المحكمة قرارها بشأن بطلان قانون الانتخابات الذي بموجبه تم انتخاب مجلس الشعب والشوري. والمؤكد أن يتم الحكم ببطلان القانون لأنه سمح للأحزاب بالمنافسة على المقاعد الفردية التي شكلت ثلث مقاعد البرلمان، بينما اقتصرت المنافسة على باقي المقاعد على الأحزاب حيث تمت بنظام القوائم. والسؤال: هل سيقتصر البطلان على ثلث البرلمان.. أم سيمتد لكل الأعضاء ؟ وهل سيتم حل البرلمان على الفور كما حدث مرتين من قبل في عهد الرئيس السابق بعد أحكام مشابهة.. أم سيصارع الإخوان من أجل إبقاء البرلمان (رغم البطلان) بحجة أن الإعلان الدستوري الحالي لا يعطي للمجلس العسكري حق حل البرلمان.. وإذا بقي البرلمان فكيف يؤدي الرئيس القادم (إذا أجريت الانتخابات) اليمين الدستورية أمام برلمان محكوم ببطلانه؟!. والنتيجة.. يوم 14 وقبل أسبوعين من موعد نهاية المرحلة الانتقالية يمكن أن تجد مصر نفسها أمام نقطة البداية لا النهاية: لا دستور، ولا رئيس، ولا برلمان!! أليس هذا ما حذرنا منه منذ البداية حين قلنا ضعوا الدستور أولاً، لكن تحالف القيادة العسكرية مع الإخوان المسلمين يومها أخذنا إلى الطريق الخطأ.. سوف يسعد معظم المصريين إذا قرر القضاء تأجيل الانتخابات او إلغاءها لأنه يجنبهم الاختيار المر بين المرشحين المتنافسين. ونفس الشئ بالنسبة للحكم ببطلان البرلمان.. ولكن ماذا بعد؟! هل هو الفراغ وربما الفوضى.. أم أن حجم المخاطر قد يقود كل الأطراف للبحث عن مخرج من الأزمة التي تهدد بإدخال مصر في دائرة الصراع الأهلي لفترة طويلة قادمة؟ تجنب الكارثة لا يكون إلا بالإقرار بأن الأوضاع عادت لنقطة الصفر لأن البداية كانت خاطئة والمسار كان بلا خريطة والادارة كانت سيئة. وأن الحاجة ماسة لفترة انتقالية حقيقية توضع مصر فيها على الطريق الصحيح لتحقيق أهداف الثورة. مرحلة تبدأ بوضع الدستور واستعادة الأمن وسيادة القانون، وضرب مراكز النظام السابق السياسية والاقتصادية. ومحاكمتهم على ما أفسدوا طوال ثلاثين عاماً. وفتح الطريق أمام قوى الثورة لتأخذ مكانها في العمل السياسي، تمهيداً لإعادة بناء مؤسسات الدولة وإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. يحتاج الأمر إلى قدر كبير من التوافق الوطني، وإلى قيادة مستقلة للمرحلة الانتقالية من خارج دائرة الاستقطاب الحالي. وقد يكون الأمر صعباً للغاية، بل أقرب إلى الاستحالة.. لكن ما جرى في المرحلة الأولى لانتخاب الرئاسة يعطي الأمل.. فالغالبية العظمى من الشعب خارج الاستقطاب الذي يمثله المرشحان اللذان يخوضان (حتى الآن) انتخابات الإعادة ممثلين للتيار الديني من ناحية والدولة القديمة من ناحية أخرى. والغالبية العظمى من الشعب مازالت رغم كل ما حدث من حصار واستنزاف وتشويه واختطاف للثورة تريد التغيير وترفض ان تعود للماضي القريب أو البعيد، وترفض أيضاً أن تستبدل استبداداً بآخر أو أن تقاد إلى المجهول تحت أي غطاء ديني أو عسكري. البعض مثل الأستاذ هيكل يقول إن الأمر يحتاج لمعجزة، على مدى التاريخ كانت مصر تستمتع بممارسة هوايتها في صنع المعجزات!!