تتوالى الأحداث الجسام وتزداد المشكلات تعقيداً ومع ذلك يبقى قطاع مهم من شعب مصر متفائلاً، بدليل خروجه إلى الميادين، تعبيراً عن ثقته المتجددة في الثورة وأهدافها وإصراراً على الاستمرار فيها وتأكيداً على أن المناورات السياسية التي تمارسها القوى المتنافسة لم تضعف رغبته أو تحرفه عن طريقه. * * * جمعني لقاء بشخص قضى وقتاً مثيراً يراقب فيه مراحل الانتقال إلى الديمقراطية في دول أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقيةوإسبانيا وجنوب إفريقيا . كان لقاء ممتعاً ليس فقط لأن محدثي تمتع بموهبة تسمح له بأن يجعل من موضوع ثقيل موضوعاً جذاباً ومشوقاً . كان ممتعاً أيضاً لأنني شعرت خلال اللقاء بأن في تجربتنا المصرية ما يضيف الكثير إلى الأفكار والنتائج التي توصل إليها المتخصصون عبر ثلاثة عقود، من خلال دراساتهم عن مراحل الانتقال المختلفة . كنت ضمن مجموعة انشغلت، قبل نشوب الثورة المصرية، بتجميع كل ما يمكن جمعه من المعلومات والتحليلات عن مراحل الانتقال من الدكتاتورية والأنواع المتعددة من السلطوية إلى الديموقراطية . كان الهدف تكوين تعبئة رأي عام بين المثقفين وصانعي الرأي في العالم العربي ليكون جاهزاً بعد عام أو عامين أو عشرة لممارسة واجبات سيفرضها الانتقال إلى الديمقراطية . ولم تذهب جهودنا هباء، مع أنه كان يمكن أن نستفيد أكثر من هذه الجهود وتجارب الدول الأخرى، لو كنا، وأقصد نفسي وزملاء وأصدقاء اهتموا طويلا بأمور الانتقال إلى الديمقراطية، قضينا وقتا أطول ندرس فيه الواقع المصري، بمعنى أن تكون بين أيدينا خريطة دقيقة توضح الأحجام الحقيقية للقوى الاجتماعية والسياسية في مصر وتتوقع ردود فعلها في حال أخذ الشعب يوما قراره بالتغيير والانتقال إلى الديمقراطية . نعترف الآن بأننا قصرنا، ولكننا نعترف أيضا أننا في خمسة عشر شهراً، أي منذ اندلاع أول شرارة للثورة، استطعنا أن نعرف عن مصر أضعاف أضعاف ما كنا نعرف، أو ما كنا نعتقد أننا نعرف . كان هذا الإنجاز الكبير في مدة هكذا قصيرة يقف وراء تفاؤل الكثيرين، وبخاصة من الشباب، بمستقبل مصر . نحن الآن لم نعد نتعامل مع فزاعات أو وحوش خارقة للعادة أو مؤسسات راسخة رسوخ الأهرامات أو شخصيات سياسية تصورناها منزهة عن الخطأ والخطيئة . نعرف عن أنفسنا وعن بلدنا وعن جيراننا ما لم نكن نعرف . توقف تقدمنا في زمن قفزت فيه شعوب عديدة قفزات واسعة . لم نتقدم وقتها لأننا لم نكن نعرف عن أنفسنا ما يكفي ، أو لأن ما وصلنا عن الحقيقة كان مشوهاً وناقصاً . ومع ذلك هناك في عالمنا العربي وفي مصر تحديداً من يقول ليتنا بقينا عند حدود القليل الذي كنا نعرفه حتى لا يأتي ويهيمن من يكره التقدم . * * * تحدثنا في اللقاء عن أهم نقاط الاختلاف بين تجربة الانتقال المصرية وتجارب الدول الأخرى . كان السؤال المحوري في المرحلة المبكرة من النقاش هو المتعلق بالصعوبة الواضحة التي تواجه “الإصلاحيين” المصريين على مستوياتهم كافة عند التعرض بالدراسة أو بالممارسة لدور المؤسسة العسكرية في المرحلة الانتقالية وما بعدها، وهل واجه الإصلاحيون في أمريكا الجنوبية الصعوبات نفسها؟ توجد أوجه شبه لا شك فيها بين الثقافتين، الثقافة السياسية المصرية من ناحية والثقافة الأمريكية اللاتينية من ناحية أخرى . هناك وهنا يعود الدور المتميز للمؤسسة العسكرية إلى تاريخ قديم، هناك يعود إلى ثقافة الضباط الإسبان والبرتغاليين الذين قادوا جيوش الدولتين لغزو الأمريكيتين وتولوا حكم المستعمرات بإذن من مدريد ولشبونة ثم من دون إذن منهما . هؤلاء العسكريون اصطحبوا معهم أعدادا كبيرة من الكهنة والمبشرين من رجال الدين لمساعدتهم في تحقيق الانضباط بين الجنود والمستوطنين وللتبشير بين الهنود الحمر بغية التأكد من خضوعهم واستسلامهم للرجل الأبيض . هكذا ترسخ في العقل الشعبي فكرة القائد الزعيمCaudillo والذي لن تستقر الأمور في غيابه وتنتشر الفوضى ويخرج الأهالي معلنين التمرد والعصيان، أما هنا في مصر فيعود دور المؤسسة العسكرية في منظومة الحكم في أكثر الدول العربية إلى ثقافة نشأت وتعمقت في عصور المماليك، وبعدها في ظل الخلافة العثمانية . وفى الحالتين، كانت علاقة هؤلاء الحكام برجال الدين في مصر، علاقة من نوع خاص، حيث كان الحكام يعتمدون فى أغلب الأزمات وسنوات القحط والمجاعات على رجال الدين لحفظ النظام وكانوا يحملونهم تبعة أى خرق للنظام العام وأمن “المجتمع” . تطورت العلاقة بين الحكام العسكريين ورجال الدين في أمريكا اللاتينية بعد الاستقلال، وبخاصة في النصف الثاني من القرن العشرين عندما تخلى رجال الكنيسة عن الحكام وراحوا يؤيدون الفقراء والمظلومين . وبالفعل كان لهم دور في نشوب حركات التمرد والاحتجاج التي أثمرت في نهاية الأمرسقوط الحكومات العسكرية وبدء تنفيذ برامج إصلاح القطاعات الأمنية . تختلف التجربة المصرية عن تجربة أمريكا اللاتينية في هذا الصدد، إذ بينما لم تقم في أمريكا اللاتينية أحزاب دينية بالمعنى المتعارف عليه في الدول الإسلامية وفي الهند، قام في مصر حزب سياسي بأساس ديني، منتهزاً فرصة وجود مؤسسة دينية تقليدية غير فاعلة سياسياً، بمعنى أنها لم تبذل جهدا اجتماعياً أو سياسياً يذكر لحماية الفقراء والمهمشين والمضطهدين، كالجهد الذي بذلته المؤسسة الدينية في أمريكا الجنوبية خلال حركات التمرد والاحتجاج . المشكلة في المرحلة الانتقالية المصرية تبدو في أن الطرفين الأقوى تنظيماً في المرحلة الانتقالية الراهنة يتواجهان في عملية “صفرية”، أي تحت الاقتناع بأن انتصار طرف يعني زوال الطرف الآخر . . أو امتصاصه أو إضعافه إلى حد فقدانه الفاعلية السياسية . بمعنى آخر يصعب تصور أن توافق المؤسسة العسكرية على إدخال أي إصلاح في قطاع الأمن طالما استمرت جماعة الإخوان المسلمين تحتل مكانة الحزب السياسي الأكبر والمرشح الأقوى بين القوى “المدنية” لتولي مقاليد الحكم، من ناحية أخرى يصعب تصور أن يقبل الإخوان المسلمون الدخول في عملية سياسية يتنازلون فيها عن بعض أسباب قوتهم وتفوقهم طالما أصرت المؤسسة العسكرية على الاحتفاظ بمكانتها المتميزة فوق كل مؤسسات الدولة . * * * عندما وافقت المؤسسة العسكرية في تشيلي على برنامج متوسط الأجل لإصلاح القطاع الأمني في الدولة واستعادة التوازن بين مؤسسات الدولة وقواها السياسية والتشريعية وقوى المجتمع المدني، لم يكن هناك في تشيلي مؤسسة أخرى في حجم أو قوة المؤسسة العسكرية أو تجاهر بأنها منافسة لها . كذلك في إسبانيا انطلقت العملية الانتقالية عندما جرى استدعاء “مؤسسة الملكية” أي القصر الملكي والعائلة المالكة والملك لتولي مهام القيادة الرمزية ولكن مالكة الشرعية التاريخية، فكان الاستدعاء إشارة إلى المؤسسة العسكرية بضرورة الخضوع للمؤسسة التي تمثل بحق شرعية الدولة وهي الملك . لا تقدم التجربة السياسية المصرية نموذجاً يماثل النموذج الإسباني . لا توجد المؤسسة مالكة الشرعية التاريخية ولا توجد المؤسسة الأقوى بلا منازع أو منافس . يوجد من يلوح بحق الحكم من واقع القوة المطلقة والموقع المتميز دائماً فوق مؤسسات الدولة وخبرة ستين عاماً وفي المقابل يوجد من يلوح بحق أن يحكم وحده باسم الدين فلا شريك له ولا أحد من فوقه يراقب ويتدخل . هنا تكمن صعوبة مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية في مصر . نقلا عن صحيفة الخليج