الانقلابات الدستورية الخمسة لم تحقق للملك فاروق أو الاحتلال البريطاني التخلص من حكومات زعيم الأمة «مصطفي النحاس» بل في ظلها تعاظمت الحركة الوطنية ولم يتبق لقوي الرجعية سوي استخدام وتطوير الانقلابات الدستورية إلي انقلاب عسكري منذ عام 1952. وكان زعيم الأمة مصطفي النحاس قد اتخذ قراره التاريخي والمفاجئ «من أجل مصر أطالبكم اليوم بإلغاء معاهدة 1936» وكان الإعلان والمفاجأة تماشيا لإقالة الزعيم النحاس قبيل إعلان قراره بإلغاء المعاهدة- الأمر الذي شحن الحركة الوطنية وجماهير الشعب المصري وارتبكت معه مؤسسات الرجعية والملك والاستعمار فلم يجدوا حيال ذلك سوي التخلص من حكومة الوفد وذلك بحرق القاهرة ردا علي حركة الكفاح المسلح الذي تقوده اللجان الشعبية بقيادة الوفد ووضع حد له. وفي يوم 25 يناير اختارت القوي الرجعية إلهاء المسئولين بوزارة الداخلية والجيش والشرطة بدعوتهم إلي الاحتفال في سراي عابدين بميلاد ولي العهد الجديد «أحمد فؤاد» ودبر عملاء القوي الرجعية حريق القاهرة بحرق بضع بنايات ومؤسسات عامة ودار للسينما، واتخذ هذا السبب ليبرر إقالة حكومة الوفد الوطنية. وفي اليوم التالي 26 يناير 1952 استدعي الملك فاروق رجال السراي ورجال المهمات الصعبة.. رجل السراي علي ماهر باشا لتأليف الوزارة والذي خادع الشعب المصري بادعائه أن حكومته تولت الحكم بدعوة مجلس النواب والشيوخ الوفديين للانعقاد، وبعد شهر واحد استقالت حكومة «علي ماهر» لتحل محلها وزارة نجيب الهلالي باشا والذي تحول إلي عون للسراي والاستعمار ولكن سرعان ما استقال «نجيب الهلالي» ليحل محله مرة أخري ولمدة شهر وزارة علي ماهر باشا ثم تلتها مرة ثانية بعد شهر واحد حكومة «نجيب الهلالي» وهكذا استغرقت فترة إلهاء الأمة عدة شهور. وفوجئ الشعب المصري عن طريق الإذاعة بصوت جديد فجر يوم 23 يوليو 1952 يذيع أن الجيش تولي أمور البلاد، وإزالة الحكم المدني، ولأول مرة كان صوت أنور السادات وهكذا تطورت الانقلابات الدستورية إلي انقلاب عسكري لأول مرة طيلة القرنين الماضيين، وبرر النظام الجديد بأن استيلاءه علي السلطة يرمي إلي عودة الحكم بالدستور والعمل علي دعوة مجلسي النواب والشيوخ الوفديين لمزاولة مهامهما. وفي سبتمبر 1952 أعلن النظام بأنه يبدأ تطبيق سياسته بدعوة الأحزاب القائمة إلي «تطهير» قيادتها الأمر الذي قوبل في البداية بالاستغراب والدهشة والامتعاض، ومن جهة أخري قوبل برضاء واستجابة ما سمي بالأحزاب الصغيرة، وفي الحقيقة لا تعد أحزابا بالمرة، كان ينطق باسم النظام الجديد المستشار «سليمان حافظ» والدكتور عبدالرازق السنهوري وأمثالهما من الخصوم التقليديين للوفد ولزعيم الأمة مصطفي النحاس بالذات. ولما كان معني عبارة التطهير جاء عاما ويفسر بالفساد كانت الجماهير تأخذه بشىء من القبول والمعقولية، ولما اتضح بعد ذلك أن المقصود بالتطهير ليس غير الوفد وزعامته حتي سادت الدهشة والتردد المصحوبة بالامتعاض والشك في سياسة النظام العسكري الجديد ونواياه واضطرت قيادة لتقديم بعض اسماء سبق للوفد إبعادها عنها، وأخيرا أوضحت قيادة النظام الجديد بأن المقصود بالتطهير هو زعيم الأمة «مصطفي النحاس».. زعيم الطهارة والوطنية. وقد استقبلت الأمة ولا سيما قيادات الوفد ومنظماته ولا سيما الطليعة الوفدية بالاشمئزاز والرفض والنفور وقامت بالاعتراض وتنظيم الاجتماعات العامة وزيارة أعضاء الوفد ورجاله في منازلهم لرفض ونبذ القانون الفاسد الجديد الذي يدعي الطهارة الذي يتنكر للوطنية وينكرها.. وقيادة الحركة الوطنية، والحد من العمل السياسي والنظام الوطني ويبدأ الاعتراض علي نظام الأحزاب والمعني بها الوفد. ولما لم يكن للأحزاب أو «الحزيبات» الأخري أي صفة حتي لزوم التطهير الذي لا يخفي وراءه إلا قيادات الزعامة وقيادتها المتمثلة في زعيم الأمة مصطفي النحاس. وقد تجاهلت قيادة الوفد هذا التعبير الماكر والغادر والاستعماري واتخذت قيادة الوفد قرارها المستقل ودورها التاريخي بالالتجاء إلي عدالة القضاء وعرضت القضية برمتها علي محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة فاختصمت في الدعوي النظام العسكري ورياسته ومستشاريه وفي مقدمتهم «سليمان حافظ» أعتي المصريين عداوة للحركة الوطنية وللوفد ولزعيم الأمة مصطفي النحاس، وقد حضر عن مصطفي النحاس في هذه الدعوي عشرات وعشرات من المحامين وفديين وغيرهم ورجال القانون تؤيدهم المظاهرات بميادين وشوارع القاهرة وبساحة المحكمة وتأجل صدور النطق بالحكم إلي يوم 16 يناير 1953 وكان يتفق وبداية الأسبوع إلا أن رجال النظام العسكري تستروا علي قرار سري ومفاجئ ليلة العطلة وقبل أذان الفجر اتخذ الإجراءات لمقاومة الحكم حتي قبل صدوره، فألقي القبض علي رجال الوفد قيادة وشباب، ومنهم من احتفظ به في الاعتقال وتبقي أسير السجون والاعتقالات بضعة شهور بلغت في بعض الحالات 50 شهرا، كما ألغي دستور 1923 وحتي اليوم، أما عن التطهير وعباراته فقد اختفت هذه الأسطورة التي استخدت للإلهاء وتحصين النظام العسكري وحفظه ضد امتعاض الشعب ولم يبق سوي الطهارة المتمثلة في زعامة الأمة وقائد الوفد مصطفي النحاس. --------- بقلم: د. عبدالمحسن حمودة رئيس الطليعة الوفدية