ثمة سؤال أخلاقي تثيره واقعة السيد أنور البلكيمي نائب حزب النور في مجلس الشعب المستقيل من الحزب والمجلس معاً، فهل هو مجرد مجرم كذب على الناس عندما ادعى تعرضه لعدوان كسر أنفه واضطره إلى وضع الضمادات على وجهه والذهاب إلى النيابة شاكياً، أم إنه ضحية تركيبة ثقافية محافظة ولّدت لديه الشعور بإثم أن يكون الإنسان مبتهجاً بالحياة، محباً للجمال، ملتمساً له في نفسه ولدى الآخرين؟ شعر الرجل بأنفه كبيراً نوعاً ما إلى درجة لم تكن تريحه بالتأكيد منذ وقت طويل، ولكنه الآن صار نائباً برلمانياً يعرفه الناس، ويجالسه المسؤولون، ويلتقيه الأجانب والعرب فضلاً عن المصريين، ولذا ازداد شعوره بالحرج من كبر أنفه، ونمت حاجته إلى تجميله، ليكون أكثر جاذبية أو أقل نفوراً من ذي قبل. إنها حاجة إنسانية طبيعية، تكاد تكون فطرية، غير أن الطريق الذى سار فيه إليها يثير لدينا تحفظين أساسيين: أولهما أن الشعور بالجمال لا يأتي بالضرورة من تناسب ملامح الشخص واتساقها وتناسق نسبها كما هو معروف في علم الجمال أو في المواصفات القياسية لتعريف الأجمل من الموديلات والفنانات وغيرهن من طالبي الجمال، المتكسبين منه أو المشتغلين به، بل ربما أتى من مصادر داخلية أكثر عمقاً تتعلق بقدرة الإنسان على التوافق مع الآخرين فى عالمه المحيط، أي قدرته على كسب احترامهم له، وثقتهم فيه، وتعاطفهم معه، ففي هذا التوافق مع الناس من حولنا ينبثق شعور عميق بأننا جزء حي من هذا العالم نؤثر فيه ونتأثر به، نتألم معه ونفرح به، ولعل هذا المصدر للشعور الجمالي هو ما تعنى به الديانة البوذية حينما تبحث عن ذروة التناغم بين الإنسان والكون فى الحالة المسماة ب (النيرفانا) حيث يذوب الجزء في الكل، والإنسان في الكون، فيحدث التوافق التام والانسجام اللانهائي. أما ثانيهما فهو سلوك طريق الكذب (القبح) وصولاً إلى الجمال، في حين أن الكذب يضاد الصدق (نوع من الجمال)، فلا يمكن أن يكون طريقاً لبلوغ الجمال، لأن الغاية الخيرة لا بد لها من طريق خير، كما تؤكد كل الأديان وجل المذاهب الفلسفية، خصوصاً لدى الألماني العظيم إيمانويل كانط داعية الأخلاق العقلية ومؤسس أخلاق الواجب. السؤال مهم إذاً: لماذا اضطر البلكيمي إلى الكذب، وهو شخص وثق به حزبه فاختاره مرشحاً، وتعاطف معه الناس فانتخبوه نائباً، يراقب الحكومة باسمهم، فكيف تكذب العين التي ائتمنوها على أنفسهم؟ هل لأن تلك العين وقحة (تندب فيها رصاصة)، عريقة في الكذب لا محالة ومن ثم يكون صاحبها مجرماً يستحق الإدانة؟ أم لأنها عين قليلة الخبرة، لشخص شديد الحياء وقع أسيراً لأفكار بالية خانته معها شجاعته الأدبية فوقع أسيراً للكذب؟ شخصياً أميل للتفسير الأخير، مبرراً لنفسي ذلك الميل بحساسية الرجل الشديدة التي دفعته للاستقالة، أو على الأقل استجابته السريعة لطلب حزبه في الاستقالة من الحزب والبرلمان، وهي حساسية لا تتوافر يقيناً عند محترف للكذب، يفترض أن تكون دفوعه عن نفسه جاهزة ولو غير مقنعة، وقدرته على الجدل حاضرة وإن كانت غير مجدية. أما وأن ذلك لم يحدث فالأغلب لدي أن الرجل غير محترف للكذب وأنه ضحية ضعفه الإنسانى، وأفكاره المحافظة التي تربط الإيمان برفض الحياة السعيدة، إذ تربط التدين بالتجهم وأحياناً بالقسوة على النفس وعلى الناس، وتفترض أن يكون المؤمن قديساً يتعالى على مطالب النفس والجسد، ليكمل إيمانه، وهو فهم خاطئ ربما اعتمدته ديانات أخرى تصفها فلسفة الدين ب «الديانات المجردة» ومنها البوذية، ناهيك عن المسيحية التقليدية، ولكنه فهم (غير إسلامي) بالمرة. فالدين الحنيف يدرك تماماً فطرتنا الإنسانية، وشريعته منزلة بمقياس المؤمن (العادي) لا تدعو إلى الرهبنة، ولا تحبذ الزهد بل تدعو للتوفيق بين مطالب الروح والجسد، الدين والدنيا، في توازن شديد يدفعنا للاعتراف بحاجاتنا، وعدم التسامي على طبائعنا، شريطة أن يتم ذلك في ضوء الحقيقة بدلاً من أن يكون على حسابها، وهذا ما أهمله البلكيمي، فقد اعتدى على الحقيقة وسلك طريق الكذب لنيل رغبة هي في الأصل مشروعة، لا يؤثمها الدين أو الشريعة ولكن ينكرها الفهم المنغلق لذلك الدين والإدراك القاصر لتلك الشريعة. وهكذا، تصلح واقعة أنف البلكيمي نموذجاً رائقاً للتعميم على قضايا كثيرة تخص فهمنا للإسلام، وخصوصا لدى التيار الذي ينتمي إليه الرجل من قبيل علاقة الدين بالدولة، والظاهر بالباطن، واللباس بالقلب. ففي تلك القضايا وغيرها يتوجب علينا أن نرتقي إلى الفهم العميق الرحيب لديننا الحنيف، وأن نركن إلى التوازن والاعتدال المرتبطين بالفطرة الإنسانية، وأن نبعد كل البعد عن التطرف المدفوع بمثاليات متوهمة لا تطيقها الطبيعة الإنسانية، فإذا ما أهملنا تلك الفطرة وعوّلنا على هذه الأوهام، سرعان ما وقعنا ضحايا لطبائعنا، أسرى للكذب والنفاق، وربما للشيزوفرينيا العقلية. نقلا عن صحيفة الحياة