تحقيق - إسلام أبوخطوة / إشراف : نادية صبحي ظلوا طيلة السنوات الماضية يعانون الإهمال الحكومى حتى تفشت بينهم الأمراض والأوبئة فى ظل انعدام الخدمات ما زادت الوضع سوءًا خاصة بعد بناء مصنع الأسمنت فى عام 1929 لتصبح منطقة «كفر العلو» فى حلوان أشبه ب«المنفى». طرق ملتوية أشبه بالثعابين وسماء يشوبها السواد من كثرة الأدخنة المتصاعدة من مصنع الأسمنت، وروائح كريهة تشمئز منها الأنوف تنبعث من تلال القمامة أمام المنازل ووجوه تعتليها الأتربة والتشققات بفعل عامل البيئة الوعرة التى يعيشون فيها، مشاهد رصدتها «الوفد» فى جولتها الميدانية للمنطقة للوقوف على مأساة الأهالى وآلامهم اليومية. وعود عديدة تلقاها الأهالى مع تغير الحكومات لكنها أصبحت حبيسة الأدراج وعلى الرغم من كونها منطقة سكنية، إلا أنها تخلو من الخدمات فلا توجد فيها مستشفيات أو وحدة صحية أو طرق معتدلة، فضلاً عن الهواء الملوث بالسموم. وتعد منطقة حلوان من أكبر المناطق تلوثاً فى مصر، حيث تحتوى على ما يقرب من 35 مصنعًا تتمثل فى مصانع شركة النصر لصناعة الكوك والكيماويات الأساسية ومصانع شركة الحديد والصلب المصرية إلى جانب مصانع الأسمنت التى تعد من أخطر الصناعات المسببة لتلوث الهواء. ويقدر الخبراء كمية الأتربة المتساقطة على المنطقة فى بعض أشهر السنة بأكثر من 360 طناً على الميل المربع أى نحو 24 مرة زيادة عن الحد الأقصى المسموح به. كما يصل معدل الأتربة العالقة إلى 1888 مليون جسيم فى المتر المكعب من الهواء، أى نحو 30 مرة زيادة عن الحد الأقصى المسموح به دولياً، كما تساهم المنشآت الصناعية فى تلوث الهواء فهى أيضاً تتسبب فى تلوث المجارى المائية بما تلقيه فيها من مخلفاتها ونواتجها الثانوية، ذلك لأن معظم هذه المنشآت ومحطات القوى تقام على شواطئ الأنهار أو البحيرات أو البحار، وتتباين المواد الكيميائية التى تحملها مياه الصرف الصناعى وتتعدد أنواعها، أى تعتمد على نوع الصناعة التى تصدر منها هذه المخلفات. كما أثبتت دراسات دولية أن ما يقرب من 4 ملايين و700 ألف مواطن يصابون بالأمراض ويموتون بسبب الملوثات الناتجة عن صناعة الأسمنت فى العالم منهم 2% فى مصر وحدها التى تحتل المركز الخامس على مستوى العالم فى تلوث البيئة بسبب مصانع الأسمنت. وحذرت الدراسة من استمرار ارتفاع مخالفات مصانع الأسمنت فى مصر التى بلغت 164 مخالفة فى عام 2005 وزيادة تأثيرها فى التنمية الاقتصادية والاجتماعية بسبب ارتفاع حدود الانبعاثات عن المعدلات العالمية التى تصل إلى ستة أضعاف المعدل المسموح به. محمد فتحى أحد الأهالى المقيمين بالمنطقة منذ 40 عامًا، قال إن المنطقة مهمشة من قبل الحكومة منذ سنوات عديدة، وكثيرًا ما يتلقون وعوداً سواء من أعضاء مجلس النواب أو الحكومة، ولكن يبقى الحال على ما هو عليه، مشيرا إلى أن 99% من أهالى منطقة «كفر العلو» مصابون بأمراض الصدر، وانسداد الرئتين وغيرها من الحساسية الجلدية. «إحنا من أبناء المنطقة قبل بناء المصنع».. يكمل «فتحي» حديثه، قائلاً إن ما قيل فى بعض الوسائل الإعلامية عن بناء المبانى السكنية بعد المصنع غير صحيح بالمرة فجميع الأهالى مقيمون بالمنطقة منذ سنوات، وحال علمهم ببناء المصنع فى المنطقة اعترضوا ونظموا وقفات أمام المحافظة، وقدموا العديد من الشكاوى للجهات التنفيذية منها البيئة ولكن دون جدوى. الأمر نفسه، أكده محمد أنور، موضحاً أن جميع الأهالى المقيمين فى المنطقة أصيبوا بأمراض الصدر وضيق التنفس لتلوث الهواء ويصرفون مئات الجنيهات شهريًا للعلاج برغم حالتهم الاقتصادية المتدنية. الساعة تدق الرابعة عصرًا تجد لون السماء يتغير شيئًا فشيئًا حتى يشعرك بقدوم الليل من كثرة الأدخنة السوداء المتصاعدة من المصانع.. مشهد حاول «أنور» وصفه، مبيناً أن هذه الأدخنة تدخل الشقق وتمتزج بالأطعمة والملابس فى الدواليب لتصيب الأسرة بالأمراض، فيما يصاب آخرون بضيق التنفس من كثرة وجودها دون وجود مصدر لتنقية الهواء. «احمرار فى الجسم وتشققات فى الجلد».. أمراض أصيب بها «أنور» من الأتربة المشبعة بسموم الأسمنت، موضحاً أن لديه طفلين، أحدهما مصاب بالربو، والآخر بانسداد فى الشرايين. ويصمت صاحب الوجه الشاحب للحظات وينظر للمصنع ويستكمل قائلاً: «دول مش بيعرفوا ربنا.. إحنا عايشين فى سجن»، يشير صاحب الأربعين عامًا إلى أن المنطقة خالية من الخدمات منذ سنوات عديدة، فمع تغير الحكومات يتلقون العديد من الوعود بالإصلاح وإنشاء وحدات صحية ومدارس وطرق وإنارة الطريق، إلا أنها مع الوقت تصبح حبيسة الأدراج. «بنموت بالليل ومش بنلاقى اللى ينجدنا».. بهذه الكلمات استهل محمد يوسف، حديثه، مشيراً إلى أن دخان الفحم يجعل سماء المنطقة سوداء منذ قدوم العصر، فنعيش جو الليل مبكرًا مع تصاعد الأتربة تصبح الحياة جحيمًا خاصة للأطفال الذين يصرخون من عجزهم عن التنفس بطريقة طبيعية، فضلاً عن تضرر الحوامل، فكثيرًا ما يحذر الأطباء من التعرض لهذا الهواء الملوث إلا أن الأهالى لن يجدوا مفرًا سوى هذه المنطقة. مع قدوم الساعة الثانية ليلاً تصبح المنطقة داخل مدخنة المصنع، فلا يستطيع الأهالى فتح أى نوافذ للهواء، حتى يحموا أنفسهم بعض الشيء من هذه السموم، يزاد الوضع سوءاً فى فصل الصيف مع ارتفاع درجة حرارة الجو تفتح النوافذ ويجد الأهالى فى الصباح ملابسهم مليئة بالأتربة ورواسب الأسمنت وجميع الأثاث تراكم عليه كميات كبيرة من الأسمنت لتهلكه. مشاهد يرويها صلاح سيد أحد الأهالي، لافتاً إلى أن أعضاء مجلس النواب لم يعطوا المنطقة أية أهمية ولم يجروا أية زيارة ميدانية للمنطقة بعد فوزهم. «الحياة فى الصيف هنا لا تطاق».. يكمل «سيد» حديثه، قائلاً فى فصل الصيف تتحول المنطقة إلى كتلة من «جهنم» الأهالى بين نار دخان المصنع المليء بالأتربة السامة، وبين سخونة الجو وعدم توفر الهواء بسبب أدخنة المصنع والروائح الكريهة التى تنبعث من أتلال القمامة الموجودة أمام المنازل. وحاولت «الوفد» التواصل مع عدد من أعضاء مجلس النواب عن الدائرة لمواجهتهم بمشكلات المنطقة وماذا فعلوا من أجلها، إلا أن جميعهم تهربوا من المواجهة بحجة انشغالهم الوظيفي. خبير بيئي: إقامة مصانع أسمنت صديقة للبيئة صعبة للغابة الدكتور عصام الحناوى، خبير البيئة والأستاذ بالمركز القومى للبحوث، قال إن هواء منطقة «كفر العلو» مليء بالجزئيات السامة التى تهدد حياة الأهالي، وذلك لعدم وجود مرشحات لحجز الغبار الذى يتصاعد من المداخن ليحمل الهواء جسيمات الأسمنت ويرسبها على أوراق الشجر. وأضاف «الحناوي» أن التحجر الرئوى والمعروف باسم «السليكوز» يعد المرض الأكثر انتشارًا فى المناطق التى توجد بها مصانع الأسمنت، مشيراً إلى أن الكارثة ترجع لسنوات طويلة بسبب نقل كل الصناعات الملوثة للبيئة من أوروبا إلى الدول النامية وذلك بعدما شددت القوانين على خطورة تلوث الهواء. وعن إمكانية إنشاء مصانع أسمنت صديقة للبيئة، أكد «الحناوى» أنه من الصعب تنفيذ ذلك لعدم قدرة أصحاب المصانع فى مصر على نفقاتها المالية، وطالب بعمل تشريع بيئى منظم يعاقب المصانع التى لا تلتزم بمعايير معينة من الجودة.