كتب: مصطفى عبيد فؤاد سراج الدين يرفض إنذار بريطانيا ويعلن الحرب على قوات الاحتلال 50 شهيداً من رجال الشُرطة يُسطرون بطولة كرامة المصريين فى 25 يناير معركة الإسماعيلية سنوات تُمر ويبقى يوم الفداء والنضال ضد الاحتلال البريطانى شاهداً على تضحيات رجال الشرطة الأوفياء الذين تحولوا إلى فدائيين يواجهون بقلوب نقية رصاص المستعمر. فى يوم 25 يناير سنة 1952 سجل المصريون واحدة من أروع معارك الكرامة والفداء والوطنية، وكان لفؤاد سراج الدين، وزير الداخلية وقتها، وزعيم الوفد فيما بعد دور عظيم. لقد تولى «سراج الدين» وزارة الداخلية فى حكومة الوفد الأخيرة عام 1950 والتى قام بتشكيلها مصطفى باشا النحاس، بعد فوز الوفد بأغلبية كاسحة فى الانتخابات البرلمانية. ولم يكن «سراج الدين» ذلك الشاب الصغير الذى عُرف كأصغر وزير داخلية فى تاريخ مصر مُستعداً أن تُنتقص الكرامة والعزة المصرية تحت أى مُبرر، لذا فقد كان على خلاف وزراء الداخلية السابقين يستغل منصبه فى مد الفدائيين المصريين الذين يخوضون حرب عصابات ضد القوات البريطانية بالسلاح، وهو ما كشفته محاكمة الرجل فى عهد ثورة يوليو والتى انقلبت إلى رد اعتبار له. ويمكن القول إن وزارة الداخلية تحولت فى عهد سراج الدين من وزارة مسئولة فقط عن الأمن بشقيه الاجتماعى والسياسى، إلى وزارة حرب ضد الاحتلال. لم يكن ذلك ليحدث فى أى عهد سابق، بل كانت الشرطة دائماً مُسخرة لحماية المسئولين والساسة، وفى بعض الأحيان كانت أداة بطش ضد الخصوم والمعارضين. ولا شك أن منشورات ثورة 1919 المجهولة التى نشرها، مؤخراً، الدكتور رفعت السعيد تكشف أسماء ضباط الشرطة الذين وقفوا مع الاحتلال ضد الثورة. مُن هُنا يتضح حجم التغيير الذى أحدثه فؤاد سراج الدين فى وزارة الداخلية، إنها وزارة ملك مصر، أى ملك شعب مصر، وعليها أن تدافع عن حقوقه وتناضل من أجل حريته. لقد بدأ الرجل منذ تولى مسئولية الداخلية دعمه المباشر لحرب الفدائيين فى قناة السويس، فسهّل باعتباره وزيراً للداخلية مهمة نقل السلاح إليهم، وهو ما شهد به وجيه أباظة، أحد الضباط الأحرار فيما بعد فى محاكمة فؤاد سراج الدين بعد يوليو 1952. انطلقت الشرارة الأولى للحرب ضد الاحتلال بعد قرار الزعيم مصطفى باشا النحاس التاريخى إلغاء معاهدة الصداقة المصرية البريطانية التى وقعت عام 1936 والتى سحبت بريطانيا بمقتضاها قواتها إلى منطقة القناة فقط. عندما أطلق النحاس عبارته الأشهر «باسم مصر وقعت معاهدة 1936، وباسم مصر اليوم أطالبكم بإلغائها»، انطلقت الجماهير فى شلالات تأييد مذهلة، وتوحدت جهود الشعب والحكومة لبدء الكفاح المسلح ضد الإنجليز. وبالفعل تطوع مئات الشباب فى معسكرات تدريب لضرب مصالح الإنجليز ومنشآتهم فى مدن القناة، وانسحب أكثر من 90 ألف عامل مصرى من خدمة تلك المعسكرات، وأصبح الاحتلال البريطانى يعانى كل يوم خسائر بشرية ومادية نتيجة ضربات المقاومة. وطبقاً للوثائق البريطانية، فإن قوات الاحتلال التى كانت تتركز فى منطقة قناة السويس بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية رصدت مشاركة ضباط شرطة فى إمداد الفدائيين بالسلاح، وهو ما دفعهم إلى إصدار قرار بتفريغ منطقة القناة من جميع أفراد الشرطة المصرية ومصادرة أسلحتهم. وقام الجنرال «إكسهام» قائد الجيوش البريطانية فى يوم 25 يناير سنة 1952 بإرسال خطاب إلى محافظ الإسماعيلية يطالبه بتسليم الشرطة لكامل أسلحتها إلى قواته (وفى ذلك الوقت كانت المحافظات تابعة لإدارة الداخلية) فما كان من اللواء أحمد رائف، قائد بلوكات النظام، وعلى حلمى، وكيل المحافظة، ومصطفى رفعت، ضابط الاتصال المصرى أن رفضوا القرار ثُم اتصلوا بفؤاد سراج الدين، وزير الداخلية وأخبروه بالأمر. وسألهم الوزير عن رأيهم، فقال له مصطفى رفعت، إننا نعتبر الإنذار جرحاً للكرامة المصرية، هذه أرض مصرية، وليس مسموحاً لأحد أن يأمر رجال الشرطة سوى قياداتهم من المصريين. وقال «سراج الدين»، إنه باعتباره وزيراً للداخلية فإنه يأمرهم أن يقاتلوا حتى آخر رصاصة. ولم يصدق الجنرال «إكسهام» نفسه عندما سمع رفض الإنذار من جانب محافظة الإسماعيلية، ولم يصدق رد مصطفى رفعت، وقادته انفعالاته إلى أن يصرخ فى وجوه مساعديه بضرورة سحق الإرادة المصرية بأى ثمن. كان عدد جنود الشرطة المصرية يقترب من الألف، وحشد «إكسهام» نحو سبعة آلاف جندى بريطانى ليحاصروا مبنى المحافظة، ويطلقوا نيرانهم العنيفة تجاهها. وبدأت المعركة غير المُتكافئة واشتعل الحماس وانطلق رجال الشرطة المصرية يُقاتلون بقوة وصمود وفدائية، وطالت المعركة ست ساعات كاملة استخدم الإنجليز نيرانهم المكثفة، وضربوا مبنى المحافظة بالقنابل لينهار تماماً، وسقط عشرات الجنود الإنجليز صرعى، بينما فقدت مصر 50 شهيداً وعشرات الجرحى، واستمرت المعركة حتى نفدت ذخيرة الشرطة المصرية. وأبدى ضباط الجيش البريطانى إعجابهم بفدائية وشجاعة رجال الشرطة فقدموا لهم التحية العسكرية بعد أن نفدت ذخيرتهم، وتوالت المظاهرات فى محافظات مصر تأييداً لحكومة النحاس، مُطالبة بالثأر والقصاص، وتوالت العمليات الفدائية ضد معسكرات البريطانيين فى مُدن القناة. ولم يكُن هُناك أمام الإنجليز ورجال القصر سوى إجهاض الثورة التى أعلنها الوفد ضدهم، لذا فقد تم تدبير حريق القاهرة فى اليوم التالى مُباشرة، واشتعلت النيران فى عدد من دور السينما ومحلات اليهود، ومقار الأجانب واضطرت الحكومة إلى إعلان الأحكام العرفية، لكن كان الوقت قد تأخر حيث وجد الملك فاروق مُبرر إقالة الحكومة لتدخل مصر مرحلة تخبط وفوضى حتى ليلة 23 يوليو عندما استولى الضباط الأحرار على السلطة. ورغم أن بطولة رجال الشرطة وفخرهم بوقوفهم ضد جنود الاحتلال، فإنَّ بعض خصوم الوفد حاولوا تشويه العمل، وكان ذلك مبكراً حيث شهدت محاكمة سراج الدين ضمن محاكمات الثورة عام 1954 اتهامه بالتسبب فى استشهاد رجال الشرطة المصريين، وفوجئ الحاضرون بواحد من الضباط الأحرار هو وجيه أباظة يصر على تقديم شهادته، مؤكداً أن «سراج الدين» كان أكبر داعم لحركة الفدائيين، وهو ما دفع رئيس المحكمة أن يقول وقتها ل«سراج الدين»: «نحن لا نشك فى وطنيتك». وقد استمرت حرب التشويه ضد الوفد وضد ما فعله وزير الداخلية فيما بعد، وكان أشهر المتطاولين رئيس الجمهورية نفسه الرئيس الراحل أنور السادات الذى قال فى خطاب شهير، إن الذين يطالبوننا اليوم بالديمقراطية كانوا يضربون بالصرم «الأحذية» من الإنجليز والملك. قام فؤاد سراج الدين فى 1981 بإرسال خطاب شديد اللهجة إلى الرئيس السادات قال فيه: «لقد نسبتم إلينا فى خطبكم وبياناتكم المتلاحقة صفات كثير مثل (السقالة) (البذاءة) و(الرذالة)، ووصل الأمر إلى أن ذكرتم فى خطابكم الأخير بجامعة الإسكندرية فى يوم 16 مايو بأن الإنجليز كانوا يضربوننا بالصرم». ويرد «سراج الدين» على رئيس الدولة بعنف «إننا يا سيادة الرئيس لم نكن من الرجال الذين يضربون بالصرم، ومن يحاربون الإنجليز فى معركة القناة فى عام 1951 ويطلقون الرصاص لا يمكن أن يضربوا بالصرم، ومن يمنعون السفن الإنجليزية بالقوة من اجتياز خليج العقبة حفاظاً على سيادة مصر لا يصدق عنهم أنهم يضربون بالصرم، ومن يلغون معاهدة 1936 متحدين الإنجليز ولهم عشرات الألوف من الجنود فى قاعدة القناة لا يمكن أن يقال عنهم إنهم كانوا يضربون بالصرم». ولا شك أن المؤرخين أنصفوا «سراج الدين» فى معركة الإسماعيلية، واعتبروا قراره متسقاً مع الإرادة الوطنية لضباط الشرطة الذين رأوا عدوهم ومحتلهم يجبرهم على تسليم أسلحتهم. لقد اتفقت إرادة الوفد والشعب والشرطة فى ضرورة المقاومة، واختار رجال الشرطة الأوفياء التضحية بحياتهم، بدلاً من التفريط فى كرامتهم وكرامة مصر، فكان يوماً يدعو إلى الفخر.