كم تمنيت لو صدقت التهديدات الأميركية وقررت واشنطن قطع معونتها «المشؤومة»، فكم أذلت مصر هذه المعونة الأميركية وكم أهانتها وكم من الأضرار والخسائر سببتها على مدى أكثر من عقدين من الزمان. ولقد كُتب الكثير والكثير عن أضرار هذه المعونة الأميركية التي لا تزيد عن مليار ونصف مليار دولار، منها 1.3 مساعدات عسكرية، وهذه المساعدات العسكرية أكذوبة كبيرة، إذ أن هذه الأموال تخرج من الخزانة الفيدرالية الأميركية لتدخل في خزانة البنتاجون والمجمع الصناعي الحربي الأميركي، أما ما يصل مصر من مساعدات عسكرية فلا يعدو كونه هيمنة كاملة على الجيش المصري . وتدريبه وإعداده وتوجيهه ضد أعداء أميركا وإسرائيل، والباقي الضئيل من المعونة 250 مليون دولار يتم إنفاقه تحت إشراف أميركي، ومن خلال ما يسمى ب«مجلس رجال الأعمال المصري الأميركي»، الذي كان يشرف عليه جمال مبارك وشلة الفساد، وهذا يعني أنه ليس هناك مساعدات ولا يحزنون. من البديهي والمنطقي أن حملة التهديدات بقطع المعونة، التي شنها الأميركيون على مصر خلال الأيام الماضية مع تصعيد أزمة تمويل منظمات المجتمع المدني، هي حملة كاذبة مئة بالمئة، ومن المستحيل أن تنفذ واشنطن هذا التهديد أو تمس المعونة، حتى بالتخفيض، بل على العكس، أعتقد أنها تفكر في زيادتها الآن بعد الثورة المصرية، وحتى لو مصر طلبت إيقاف المعونة فستضغط واشنطن لاستمرارها،. فهذه المعونة ليست فقط وسيلة ضغط على مصر بل هي في حد ذاتها «تقنين» للتجسس العلني وللهيمنة الأميركية على أمن مصر القومي عن طريق المعونة العسكرية التي تسمح لواشنطن بالهيمنة شبه التامة على الجيش المصري. ومن المعروف أن غالبية القيادات والرتب العسكرية العالية في الجيش المصري، وعلى مدى ثلاثة عقود مضت، قد تلقوا إعداداً ودورات في الولاياتالمتحدة أو في دول أوروبية حليفة لها، وذلك في إطار المعونة العسكرية. وهذا لا يعني فقط أن أمن مصر القومي مكشوف تماماً لدى واشنطن، بل يعني أيضاً أن العقيدة العسكرية للجيش المصري الآن موجهة في الاتجاه الخطأ، وليس ضد العدو الحقيقي للوطن، ولا يمكن تدارك هذه الأخطاء والعيوب الكارثية إلا بالاستغناء تماما عن هذه المعونة العسكرية المشؤومة، ولهذا أقول أنه حتى لو طلبت مصر نفسها وقف المعونة فإن واشنطن نفسها لن تستجيب لطلبها، وستمارس الضغوط كافة. وتستخدم شتى الأساليب لكي تتراجع مصر عن طلبها هذا، خاصة وأن مبلغ المليار ونصف الذي كان كبيرا في بداية الثمانينات لم تعد له قيمة كبيرة الآن، بينما ما تحصل عليه واشنطن من فوائد من ورائه الآن تزيد قيمته أضعافاً مضاعفة عن بداية الثمانينات في ظل المتغيرات التي أحدثتها ثورات الربيع العربي على الساحة المصرية والعربية، وفي ظل زيادة التهديدات التي تواجه إسرائيل ومصالح واشنطن في المنطقة. وقد كتبت صحيفة «كريستيان ساينس موتورز» أشهر وأقدم الصحف الأميركية في 14 فبراير تنتقد بشدة الابتزاز الأميركي لمصر بالتهديد بقطع المعونة، وقالت صراحة إن «هذه المعونة ليست سوى أداة للسياسة الخارجية الأميركية»، وأكدت الصحيفة أن «المصريين لديهم كامل الحق في التشكيك في نزاهة التزام الولاياتالمتحدة بالديمقراطية، نظراً لأن المساعدات الأميركية لم يستفيد منها في مصر سوى نظام مبارك القمعي». ورغم تصعيد حملة التهديدات في واشنطن فقد أقرت الحكومة الأميركية المعونة التي ستحصل عليها مصر حتى عام 2013، ولكن رغم هذا الإقرار فإن هذه الحملة والتهديدات بقطع المعونة تعكس في الواقع الوجه القبيح والمخزي للسياسة الأميركية ولواشنطن التي لا تخجل عن ممارسة الابتزاز الرخيص علنا، لقد كانت الرسالة الأميركية من هذه الحملة واضحة وصارخة وهي «المساعدات مقابل السيادة والكرامة المصرية»، وقد قبلها نظام مبارك الفاسد، فهل تقبلها مصر الثورة. نقلا عن صحيفة البيان الاماراتية