لكل حرب جبهتان.. جبهة المواجهة مع العدو، وجبهة داخلية.. والأخيرة ليس فيها قتال ولا رصاص ولا دماء، ورغم ذلك هى الحاسمة فى المعارك، فالانتصارات تصنع فى الجبهات الداخلية أولاً ثم تتحقق فى ميادين القتال. وطوال 44 عاماً رصدت كتابات كثيرة ما حدث على جبهة القتال فى حرب أكتوبر، فيما ظلت صورة الجبهة الداخلية للمجتمع الذى صنع هذا النصر باهتة، وبعيدة عن بؤرة الاهتمام. ومن يرصد ملامح الجبهة الداخلية عام 1973، ستتملكه الدهشة مما كانت عليه هذه الجبهة قبل ساعات قليلة من خوض الحرب، وسيتوقف أمام عدة ظواهر رئيسية فى المجتمع آنذاك.. أولى تلك الظواهر، أن المجتمع المصرى كان يبدو لمن ينظر إليه من بعيد أنه مجتمع بلا تمايزات كبيرة بين المصريين فلا وجود لملامح تكشف الهوية الدينية، فلا جلابيب بيضاء ولا ذقون ولا أغطية رأس للسيدات إلا فى المناطق الريفية، فيما كانت الفساتين الطويلة هى الزى الشائع لبنات المدن وسيداتها، وكان «المينى جيب» هو الزى المفضل لدى بنات كثير من جيل الشباب وقتها، أما الرجال فكانت الجلابيب محلية الصنع هى الرداء الوحيد لأبناء القرى، والبدل والقمصان محلية الصنع أيضاً هى الرداء الأكثر انتشاراً بين سكان المدن، وكانت الموضة المنتشرة بين الشباب هى الشعر الطويل وارتداء القمصان المشجرة والكرافتات العريضة والبنطلون الواسع. لم يعرف مجتمع 1973 كلمة تحرش، فلم يكن أحد يفكر مجرد تفكير فى ملاحقة أى من بنات حواء سواء لفظياً أو حتى بالعيون! مجتمع النصر كان محباً للحياة، ويستمتع بها، بقدر ما ملكت يداه.. ففى مطلع عام النصر استمتع المصريون جميعاً بأغنية أم كلثوم الجديدة -وقتها- «حكم علينا الهوى»، (تأليف عبدالوهاب محمد وتلحين بليغ حمدى)، التى يقول مطلعها «حكم علينا الهوى نعشق سوا يا عين.. واحنا اللى قبل الهوى شوف كنت فين وأنا فين». فى ذات السنة شدت أم كلثوم آخر أغانيها «ليلة حب» (تأليف أحمد شفيق كامل وتلحين محمد عبدالوهاب) ويقول مطلعها «ياللى عمرك ما خالفت ميعاد فى عمرك الليلة دى غبت ليه؟.. ليه حيرنى أمرك.. أخرك إيه عنى؟.. مستحيل الدنيا عنى تأخرك.. بالأمل مستنى».. كانت أم كلثوم تغنى للحبيب الذى تأخر وتنتظر بالأمل وصوله، واستمتع المصريون بالأغنية، فى ذات الوقت الذى كانوا يحلمون فيه بمعركة الكرامة التى انتظروها طويلاً. أما عبدالحليم حافظ فغنى قبيل حرب أكتوبر رائعته «يا مالكاً قلبى» (كلمات أحمد مخيمر وتلحين محمد الموجى) ويقول مطلعها «يا مالكاً قلبى يا آسراً حبى.. النهر ظمآن لثغرك العذب». وفى السينما كان عام النصر هو العام الذى شاهد فيه المصريون لأول مرة فيلم «البحث عن فضيحة» لعادل إمام وميرفت أمين وسمير صبرى، كما شاهدوا أيضاً فيلم «مدرسة المشاغبين» لنور الشريف وميرفت أمين، وهو الفيلم الذى تم تحويله لمسرحية بطولة عادل إمام وسعيد صالح وسهير البابلى، وبدأ عرضها قبل أن تضع الحرب أوزارها وتحديداً فى يوم 24 أكتوبر، وعرضت السينما أيضاً فى عام الحرب فيلم «حكايتى مع الزمان» بطولة وردة ورشدى أباظة. وشهد الموسم المسرحى خلال عام الحرب رواجاً كبيراً، وتم خلاله عرض عدد غير قليل من المسرحيات، وهى مسرحية «هالو دوللى» بطولة فؤاد المهندس وشويكار ومحمد عوض، ومسرحية «افتح يا سمسم» بطولة محمد رضا وليلى طاهر، فيما كانت فرقة ثلاثى أضواء المسرح (سمير غانم وجورج سيدهم) تقدم مسرحية «جوليو وروميت». أما التليفزيون فعرض فى رمضان 1973 مسلسل «عماشة عكاشة» لمحمد رضا، ومسلسل «أبداً لن أموت» لعزت العلايلى، وكانت الفوازير بطولة ثلاثى أضواء المسرح، وإذاعياً كانت إذاعة القرآن الكريم ومعها البرنامج العام يتسابقان فى إذاعة القرآن الكريم على الهواء مباشرة، بتلاوة الشيوخ عبدالباسط عبدالصمد ومحمود الحصرى ومصطفى إسماعيل ومحمد محمود الطبلاوى وأبوالعينين شعيشع ومحمود على البنا وراغب مصطفى غلوش.. فيما كانت الابتهالات الدينية بأصوات الشيوخ النقشبندى وطه الفشنى ونصر الدين طوبار. وكان المسلسل الإذاعى الأول فى رمضان هو مسلسل «سيد مع حرمه» بطولة سناء جميل وسيد الملاح، كما عرضت الإذاعة أيضاً مسلسل «أرجوك لا تفهمنى بسرعة» بطولة عبدالحليم حافظ وعادل إمام، وهو المسلسل الذى توقف عرضه يوم 7 أكتوبر أى بعد 24 ساعة فقط من اندلاع الحرب. وسياسياً لم يكن فى مصر أحزاب، ولم يكن مسموح بمظاهرات سوى فى الجامعات فقط. واقتصادياً كانت البلاد تعيش أزمة طاحنة.. أزمة سببها نكسة 1967، التى كلفت مصر خسائر بلغت 25 مليار دولار، وتكلف الاستعداد لحرب أكتوبر 350 مليون جنيه.. وفى تلك الأوقات دخلت مصر أزمة اقتصادية لا تخطئها عين، بدت الأزمة واضحة فى كل مناحى الحياة.. زحام المواصلات.. طوابير الجمعيات الاستهلاكية.. تراجع كبير فى كل الخدمات. معركة الاقتصاد خسرت مصر فى عدوان 1967 حوالى 11 مليار جنيه مصرى وهو ما يعادل 25 مليار دولار -وقتها- حيث كان الجنيه المصرى يساوى نحو 2.3 دولار فى الفترة ما بين حربى يونيو 1967 وأكتوبر 1973. شملت تلك الخسائر فقدان مصر حوالى 80% من معداتها العسكرية وفقدان سيناء بثرواتها البترولية والمعدنية وإمكانياتها السياحية، كما فقدت مصر إيرادات قناة السويس التى كانت تبلغ 95.3 مليون جنيه عام 1966 أى نحو 219.2 مليون دولار توازى نحو 4% من الناتج المحلى الإجمالى فى ذلك العام، وفضلاً عن هذا الفاقد فى الإيرادات فإن الخسائر الناجمة عن العدوان الإسرائيلى على منشآت قناة السويس قاربت المليار جنيه أى نحو 2300 مليون دولار بأسعار ذلك الحين، كما فقدت مصر جانباً كبيراً من الإيرادات السياحية يقدر بنحو 37 مليون جنيه سنوياً توازى قرابة 84 مليون دولار فى ذلك الحين. وفقدت مصر أيضاً أصولاً إنتاجية تم تدميرها أو تعطيلها بشكل دائم أو مؤقت، حيث حدث تدمير فى 17 منشأة صناعية كبيرة وبلغت قيمة الدخل المفقود نتيجة تعطل هذه المصانع نحو 169.3 مليون جنيه، أى حوالى 389.4 مليون دولار بأسعار ذلك الوقت، وبالإضافة لكل تلك الخسائر تعرضت مصر لدمار كبير فى المنشآت الاقتصادية والأصول العقارية فى مدن القناة التى تعرضت للعدوان والتدمير بشكل مكثف. تمويل النصر ووسط هذا الحال يثور السؤال.. من أين موّلت مصر النصر؟.. الإجابة: تمويل الحرب كان مصرياً خالصاً.. وكان الرافد الأكبر من جيوب كل المصريين، من الضرائب.. فارتفعت حصيلة الضرائب المباشرة وغير المباشرة من 442.5 مليون جنيه عام 69/1970 إلى نحو 574.7 مليون جنيه عام 1973. كما تزايد إصدار البنكنوت كآلية لتمويل الإنفاق العام فيما يعرف بالتمويل بالعجز. فقد ارتفع حجم النقد المطبوع من 761.5 مليون جنيه فى يونيو 1970 إلى 866.6 مليون جنيه فى يونيو 1972، كما زادت قيمة أذون الخزانة من 164 مليون جنيه فى العام المالى 59/1960 إلى 459 مليون جنيه فى عام 1972. استثمارات ومنع استيراد منذ عام 1967 وجهت مصر اهتمامها للاستثمارات التى تخدم المعركة على كل ما عداها من استثمارات، ومع مطلع عام 1972 صدر قرار بحظر استيراد جميع السلع التى يمكن الاستغناء عنها، وضمت السلع المحظور استيرادها الملبوسات والأقمشة الصوفية الفاخرة وأجهزة التليفزيون والراديو والسجائر والثلاجات والغسالات والسجاد الفاخر. وقررت الحكومة زيادة الرسوم الجمركية على السلع الكمالية الواردة للاستعمال الشخصى بنسبة 50%. كما تم قصر تجارة الجملة فى المواد والسلع التموينية الأساسية على القطاع العام. وكان الهدف من ذلك هو منع أى تلاعب فى تلك السلع وضمان وصولها إلى جماهير الشعب بأسعار مقبولة باعتبار أن توفيرها عنصر مهم فى تحقيق الاستقرار السياسى. ولم يكن الإنفاق الحربى فى مصر يتجاوز 5.5% من الناتج المحلى الإجمالى فى المتوسط السنوى خلال الفترة من 1960 – 1962. وبعد هزيمة 1967 ارتفعت النسبة بشكل كبير، لدرجة أن عمليات شراء الأسلحة للاستعداد للحرب استحوذت وحدها على 21.7% من الناتج المحلى الإجمالى عام 1971. واستمر قرب هذا المعدل، فبلغت نحو 20% من الناتج المحلى الإجمالى المصرى عام 1973. 5 أكتوبر ويستحق يوم 5 أكتوبر 1973، وهو اليوم الذى سبق الحرب ب24 ساعة فقط، أن نتوقف عنده، ففى هذا اليوم الذى كان يوافق التاسع من رمضان، لم يكن شىء يوحى بأن مصر ستخوض حرباً فى الغد، وهو ما يعد شهادة نجاح كبيرة لخطة الخداع الذى وضعها الرئيس السادات نفسه بمعاونة جهاز المخابرات المصرية. وخرجت صحيفة الأخبار يوم 5 أكتوبر 1973 لتقول فى مانشيتها الرئيسى «السادات يتحدث يوم 18 أكتوبر فى افتتاح الدورة الجديدة لمجلس الشعب». فيما كان مانشيت جريدة الأهرام يقول «توتر حاد على الجبهة السورية يهدد بالانفجار فى أى وقت». وكان المقال الوحيد فى صحف مصر الذى يتحدث عن الحرب هو مقال الكاتب الصحفى «أحمد زين» ولكنه كان يتحدث عن «الجانب العسكرى لغزوة بدر»، أما المادة الصحفية الوحيدة التى كانت تتعلق برئيس وزراء إسرائيل جولدا مائير، فكانت بريشة الكاتب الكبير صلاح جاهين الذى رسم كاريكاتيرا يسخر فيه من رئيسة وزراء إسرائيل، فرسمها وهى تبكى بدموع غزيرة أمام المجتمع الدولى شاكية من معاملة المستشار النمساوى برونو كرايسكى أثناء زيارتها للنمسا -آنذاك- وتقول «دا حتى مهانش عليه يبوسنى وسلم علىّ بس». صفحات الرياضة يوم 5 أكتوبر عام 1973 كانت حافلة بقائمة من المباريات التى يشهدها يوم 5 أكتوبر فى الأسبوع الخامس من الدورى المصرى وضمت مباريات الأهلي والمنيا، والزمالك والاتحاد، والترسانة والمنصورة، والأوليمبى والسكة، والقناة والسويس، والبلاستيك وبنى سويف، والشرقية ودمياط. ولما أقيمت المباريات مساء 5 أكتوبر تعادل الزمالك مع الاتحاد وفاز الأهلي على المنيا بهدف أحرزه محسن صالح. وكانت المعركة الصحفية الوحيدة فى صحف مصر كلها قبيل أيام من الحرب هى المعركة التى شنها الكاتب الصحفى موسى صبرى ضد الحكومة وقتها، واتهمها بالإهمال والتراخى، بسبب انتشار فيروس غامض معدٍ فى مستشفى الدمرداش التابع لجامعة عين شمس.. وكان هجوم «صبرى» عنيفاً، وتواصل لعدة أيام وهو ما اضطرت معه الحكومة إلى إخلاء المستشفى من كل مرضاها، للبحث عن الفيروس الغامض. والطريف أنه ظهر فيما بعد أن تلك الحملة الصحفية كانت جزءاً من خطة الخداع، فلقد كان ضرورياً توفير مستشفى كامل لعلاج المصابين خلال أيام الحرب، وحتى لا يشك أحد فى الأمر، تم اختلاق حكاية الفيروس الغامض هذا لكى يتم إخلاء المستشفى دون أن يشك أحد فى أن إخلاء المرضى له علاقة بالحرب أو القتال! هكذا كانت الجبهة الداخلية لمصر عشية حرب أكتوبر.. واستمرت العمليات العسكرية لأسابيع طوال، وحققت مصر نصراً أسطورياً فى ميدان القتال، وحققت نصراً معجزاً فى المجال الاقتصادى، فلم تقترض من الخارج من أجل تغطية نفقات الحرب، لدرجة أن القاهرة رفضت قرضاً سعودياً سخياً فى وقت الحرب! فى الضربة الجوية شاركت 220 طائرة، وكانت الخطة أن تحقق تلك الطائرات نجاحاً فى تدمير الأهداف نسبته 30% وأن تصل الخسائر فى الطائرات 40% أى أن تفقد مصر 88 طائرة.. ولكن ما حدث كان مدهشاً.. نجحت الطائرات فى تحقيق 95% من أهدافها ولم تسقط منها سوى 5 طائرات فقط وليس 88 طائرة كما كان متوقعاً. وتواصلت الأرقام المدهشة فى كل ما يخص الحرب.. فمعدل تدفق الجنود المصريين إلى أراضى سيناء فى الساعات الأولى للمعركة كان أسطورياً، حيث بلغ 10 آلاف مقاتل فى الساعة، وهو معدل خرافى، خاصة أن الجنود المتدفقين كانوا يجتازون مانعاً مائياً كبيراً، وهو قناة السويس، وخط بارليف المنيع الذى كان ارتفاعه يبلغ 32 متراً بالتمام والكمال، وزاوية ميل أتربته 60 درجة. والمثير أن معدلات التضخم فى مصر ظلت تدور فى فلك 10% طوال الفترة التى تلت نكسة يونيو 1967، ولكنها فى عام 1973 حققت رقماً مدهشاً فلم تتجاوز حاجز ال5%. وظهر الجوهر الحقيقى للشعب المصرى كله خلال أيام الحرب، فلم تسجل أية حوادث سرقة طوال أيام الحرب، ولم تشهد البلاد أية مشاجرات أو مشاحنات بين الأهالى، ما عدا مشاجرة واحدة تمت بين جارين فى القاهرة، وبعد أن تحرر محضر بالواقعة تصالح الجاران وتسامحا وتعانقا، وتم التنازل عن المحضر فى حينه وساعته.. هكذا كان يعيش مجتمع النصر.. أما الأبطال الذين حققوا نصر أكتوبر، وقطعوا ذراع إسرائيل الكبرى، وأذلوها، فكانت رواتبهم مفاجأة.. فالجندى الذى شارك فى حرب أكتوبر لم يكن راتبه يزيد على 4 جنيهات، أما الملازم أول فكان راتبه الشهرى 27 جنيهاً، وكان النقيب يحصل شهرياً على 35 جنيهاً، أما راتب الرائد فكان 40 جنيهاً، والمقدم راتبه 45 جنيهاً، والعقيد 60 جنيهاً والعميد 80 جنيهاً، وكان اللواء يحصل على 120 جنيهاً، والفريق 140 جنيهاً، أما المشير أحمد إسماعيل وزير الحربية كان راتبه 150 جنيهاً.