«داخل المطبخ السياسي الصورة أقرب, بحكم المعايشة علي الطبيعة.. وبالطبع تكون النظرة من بعيد كمن سمع, وليس كمن رأي, وشاهد بنفسه رأيي العين «عين اليقين». وقبل الشروع في امتصاص حالة الغضب, بالبدء في إجراءات تحديد الحد الأدني, والأقصي للأجور, كبداية لبلورة تصور مبدئي للعدالة الاجتماعية, أحد مطالب الثورة, وبمطالعة سريعة علي هيكل الأجور, اكتشف أنه لا يصلح, ولابد من نسفه وإزالة أطلاله.. وبعد حوار ونقاش تم تحديد الحد الأقصي ب 35 ضعف الحد الأدني.. ولأن أساس تقدير الأدني من الأصل كان «ماشي» بالبركة, تم تأجيله لحين إجراء المراجعة الشاملة علي نار هادئة, لتصويب الاختلالات, ووضع أساس جديد للبناء عليه. وما هي إلا أيام، وصلت إلي أسابيع من الاطلاع, وتحليل الميزانية, واستقراء ما بين السطور بعد تكليفه بالمسئولية.. تأكد أن الموقف المالي صعب, وفي حاجة إلي منشطات، وبعد تكرار المحاولة «وجلا جلا» أسقط في يديه «ألاعيب شيحة» التي تمارسها وزارة البترول في «تلبيس طاقية الإخفي» للشريك الأجنبي عند ذكر أرقام صادرات البترول, حيث يتم جمع حصتي مصر والشريك الأجنبي في رقم واحد بالمخالفة للواقع, والتخفي تحت مظلة قروض البنوك, لتوفير السيولة, لإخفاء عجز هيئة البترول, علي اعتبار أنها كذبة بيضاء, ليس المقصود منها إزعاج الناس, وإنما مجرد تحايل علي الميزانية لتجميل صورة البترول وهيئتها في نظر الناس. وللإيحاء بعدم وجود مشاكل, أو أزمات «علشان الصورة تطلع حلوة» وفي بند الإيرادات السيادية للدولة نفس اللعبة, ونفس الأسلوب «البترول» متعثرة في سداد الضرائب, والمتأخرات تتراكم, والحجة جاهزة, وزارة الكهرباء لا تلتزم بسداد مستحقات البترول, وبالتالي السداد «حين ميسرة».. وكذلك الكهرباء لا توفي بإلتزاماتها للضرائب، بحجة أن الحكومة ووحداتها, وشركات قطاع الأعمال العام، والوزارات والمحافظات إمكانياتها المالية «بعفية شوية», ولا تستطيع سداد متأخرات الكهرباء، والكل ضد الكل «يغنوا ظلموه». والحصيلة بعد 4 أشهر في قفص الحكومة, وجود عجز كبير في السيولة، والحل معاودة طلب المعونة من الدول العربية – لعل وعسي - وبعد اتصالات, ومفاوضات اقتصر الدعم علي مليار دولار من قطر والسعودية، فكان الاتجاه إلي طرق باب صندوق النقد الدولي من جديد لاقتراض 3.2 مليار دولار.. ولكن «لا تأتي الرياح تشتهي السفن».. تمت إقالة الحكومة «وكأنه ما صدق» رفض عرض تشكيل الحكومة. وحول الموقف الاقتصادي والمالي للحكومة بعد الثورة تلتقي «الوفد» مع الدكتور حازم الببلاوي نائب رئيس الوزراء ووزير المالية السابق للحديث حول تجربته, ووسائل الخروج من الأزمة. الوضع الاقتصادي متماسك.. لكنه في حاجة لقبلة الحياة لاستعادة النشاط بداية ما هو الوضع الاقتصادي بعد الثورة بحكم اطلاعك علي الموقف عن قرب؟ - الاقتصاد العيني تأثر, ولكنه مازال متماسكاً, وبه إمكانيات تجعله قادراً علي تخطي الأزمة, والمقاومة, ويكفي حسن استغلاله.. أما المشكلة المالية, فالميزانية شكلها صعب, وميزان المدفوعات مهدد.. ومع ذلك الجسم سليم، ولكنه تعرض لحادث, ونزف دماً كثيراً, وفي حاجة عاجلة لضخ دم في شرايينه. الثورة هي السبب في حالة النزيف والهزال المستمرين؟ - الضعف والهزال نتيجة لثورة قامت, فكان تأثيرها مباشراً علي السياحة, والتي أصبحت متوقفة, أو انهارت, والاستثمارات الأجنبية, ونفس الشيء انعكس علي توظيفات الأجانب في البورصة، إلي جانب الأموال التي خرجت وما صاحبها من عدم وضوح للرؤية, وعدم الاستقرار, واهتزاز الأمن، فضلا عن أن الثورة قامت لمكافأة الفئات التي ظلمت في شكل زيادة في المرتبات، والمعاشات، ما أدي إلي ضغوط علي الميزانية، كما ترتب علي توقف المصانع تحميلها بأعباء مالية إضافية. لماذا تراجعت الحكومة عن وعدها في تحديد الحدين الأدني والأقصي؟ - تعهدت عقب قبولي المسئولية بتقديم تصوري للحكومة عن الحد الأدني والأقصي للأجور خلال شهر.. وبالفعل حددت الحد الأقصي ب 36 ضعفاً، وتم الاتفاق علي أن يكون 35 ضعفاً. وتم تطبيقه علي جهات كثيرة, منها وزارة المالية، وهذا حل مؤقت، وتعهدت بالالتزام بالشفافية، وتم الاتفاق علي أن تكون الأموال التي تنفق من المال العام, أو باسم المال العام محلا للشفافية. وتم صرف النظر عن الحد الأدني؟ - تم إعطاء مهلة سنة لتطبيق الحد الأدني, وربطه بالحد الأقصي بالحكومة، لأنني اكتشفت أن قضية المرتبات في حالة من الارتباك, والفوضي والعشوائية، مما يتطلب نظراً شاملة وتصوراً جديداً للقضاء علي العشوائية المتجزرة، خاصة أن الحدين الأدني والأقصي لا يصلحان الهيكل الوظيفي, ولأن سمعة اللجان أصبحت لا تسر, رفضت تشكيل لجنة للدراسة، وقمت بطرح تساؤلات كثيرة, للاتفاق علي معيار عام يتم علي أساسه القياس، ومن بين الأسئلة علي سبيل المثال هل يتم تسعير الوظيفة, أم الشهادة؟.. وهل المرتبات تختلف في تقديرها حسب الجهة, أم نوع الوظيفة؟.. وبناء علي هذا الطرح بدأت إعداد برنامج سريع لتهدئة النفوس، للتأكيد بأن الحكومة جادة، وحددت مهلة السنة لتطبيقه, لأنه من الخطأ «سلقه» للانتهاء منه سريعاً, دون تصويب العيوب, والارتجالية المعمول بها منذ سنوات بعيدة. وزارة البترول تطبق سياسة "طاقية الإخفا" في الصادرات ودعم الطاقة ذكرت في كتابك عند الحديث عن أرقام الميزانية بطاقية الإخفا.. ماذا تقصد؟ - كانت صادرات بترول الشريك الأجنبي تذكر في الناتج المحلي الإجمالي حتي عام 2005. ولكن بعد هذا التاريخ تم جمع صادرات الجانب المصري والشريك الأجنبي في رقم واحد مجمع، واعتبارها صادرات تخص وزارة البترول وحدها، وتجاهل ذكر الشريك الأجنبي . ومعرفة هذا الفرق يحتاج إلي تدقيق كبير غير متوفر عند الكثيرين, وقد يصعب علي المتخصصين، مما يعد أمراً مخلاً، خاصة وأن الشريك الأجنبي يصدر بالدولار، ولكننا نشتري حصة الشريك الأجنبي بالدولار، ولا نذكرها كواردات، لأن عملية الشراء تمت محلياً. وهل يمتد ارتداء طاقية الإخفا لأمثلة أخري؟ - فيما يتعلق بدعم الطاقة المفترض أن تورد البترول إيراداتها للميزانية, ونتيجة لوجود عجز كبير في الهيئة العامة للبترول, عندما تطلب من وزارة المالية الأموال المخصصة لدعم الطاقة, لتغطية احتياجات المنازل والمصانع, ومحطات الكهرباء والمخابز, والسيارات من البنزين, والسولار, والمازوت والبوتاجاز, يتم منحها جزءاً ضئيلاً, ومخاطبتها بخصم الباقي من المستحق عليها للمالية، فتقوم من جانبها باللجوء إلي البنوك لتدبير احتياجاتها من القروض لتمويل الاستهلاك المحلي، مما يؤدي إلي تراكم مديونيتها للبنوك, وعدم قدرتها علي السداد لاستمرار العجز وتصاعده عاماً بعد آخر. وماذا عن متأخرات الضرائب؟ - نفس الشيء ينطبق علي بعض الجهات، فعلي سبيل المثال المتأخرات المستحقة علي البترول لا يتم تحصيلها, بسبب عدم قدرتها علي السداد, ولوجود مستحقات متأخرة علي وزارة الكهرباء لم تسدد, وأيضا لعدم قدرة الكهرباء عن تحصيل مديونيتها المستحقة علي وزارات وجهات حكومية كثيرة، وهكذا، حلقة من التشابكات التي لا تنتهي، وكذلك شركات المقاولات تتوقف عن السداد لوجود مستحقات متأخرة علي الحكومة, ولا تتمكن من تحصيلها، والحل ضخ لإجراء التسويات اللازمة لفصل هذه التشابكات, ودعم هذه الجهات لتلبية احتياجاتها للوصول إلي التشغيل الأمثل لطاقاتها, والهروب من دفع غرامات التأخير, وتلافي قروض البنوك وتحمل أعباء خدمة الدين. إلي أي مدي يشكل الدعم مشكلة؟ - قيمة الدعم السنوي تستحوذ علي ثلث الميزانية، وتكمن المشكلة في عدم الدعم إلي مستحقيه الفعليين، فمثلا البوتاجاز يتسرب خلال عملية التوزيع إلي قمائن الطوب, ومزارع الدواجن, والسولار إلي الفنادق, واليخوت, وكذلك الدقيق يتسرب من المخابز. وما أسباب فشل تطبيق الدعم النقدي؟ - الدعم النقدي هو الحل الأمثل, لضمان وصوله لمستحقيه الحقيقيين، ويحتاج فقط إلي توفير قاعدة بيانات عن مستحقي الدعم، ويبدأ تطبيقه علي سلعة معينة, وعلي مستوي محافظة, أو عدد أكبر كتجربة.. ثم تقييمها لتلافي أي أخطاء، تمهيدا لتعميمها, وهكذا علي سلعة أخري, وغيرها، ومن المقرر البدء في تطبيق التجربة علي أنابيب البوتاجاز، وتم الانتهاء من طبع كوبونات التوزيع. ما حقيقة اتهام وزارة المالية بالاستيلاء علي أموال التأمينات؟ - التأمينات مستقلة, وتدير استثماراتها منذ 7 سنوات، واللجوء إلي تمويل الاستثمارات ليس بدعة أوجدها يوسف بطرس غالي, وإنما هو السائد منذ العهد الاشتراكي، والمصدر الأساسي للمدخرات في المعاشات, وهيئة البريد. ويتم استثمارها في نوعين من المشروعات, منها مشروعات لها عائد مالي, وأخري ذات نفع عام, ويكون لها عائد اقتصادي علي مستوي الدولة, وهذا النوع بلا عائد مالي, أو عائد ضئيل. من المسئول عن المعاشات حالياً؟ - المسئول عن المعاشات حاليا الميزانية العامة للدولة, والضامن لها كانت وزارة المالية منذ عهد وزير المالية الأسبق بطرس غالي، وتتولي الميزانية صرف 28 مليار جنيه سنويا لأصحاب المعاشات من الأموال المستحقة علي وزارة المالية، بما يمثل نسبة 70 % من إجمالي قيمة المعاشات السنوية, والتي تبلغ 40 مليار جنيه. ما مدي تأثير الثورة علي الإنتاج المحلي؟ - من الغريب أن الإنتاج المحلي زاد في ظل الثورة بنسبة 1%, ومعدل النمو 1%, في حين الثورة الروسية أدت إلي انخفاضه بنسبة 30%. ألا يعد بند مرتبات المستشارين إهداراً للمال العام؟ - مرتبات المستشارين لها جانب صحيح، وهذ الوضع نتيجة للاختلال في هيكل الأجور في الجهاز الإداري للدولة، وفي ظل حالة الغموض, وغياب الشفافية تحدث كثير من الأمور الشاذة التي لا تستند إلي أي أسس، وأخطر ما في ذلك الحالة النفسية التي تعكسها المجاملات, والمحسوبية من ظلم, والإحساس بعدم الانتماء، وهذ الوضع هو الذي فرض فكرة تحديد حد أقصي لأجور، للقضاء علي التفاوت الصارخ وغير المبرر في المرتبات. ما الجديد في قانون الضريبة العقارية؟ - تم تأجيلها في حكومة «شرف» قبل تكليفي لمدة سنة، وتم إعفاء المسكن الخاص والمنشآت الصغيرة, وأدخلت عليه تعديلاً يتضمن فرض الضريبة علي من له الحق في الملكية, حتي لو لم تكن مشهرة، بدلا من اقتصارها علي المالك الشخصي، خاصة أن معظم العقارات غير مسجلة, وانتفت العلاقة مع المالك الشخصي بالتمليك.. وتمثل نسبة السكن الخاص 20% من إجمالي العقارات.. أما النسبة الباقية الخاضعة للضريبة فتشمل العقارات الصناعية, والتجارية. محاكمة مبارك وراء تراجع الدول العربية عن المساعدات؟ - ردد البعض هذا، ولكن لا يوجد سبب معلن، وكانت السعودية قد وعدت بحزمة من المساعدات في حدود 4 مليارات دولار, والإمارات 3.7 مليار دولار, وقطر 10 مليارات دولار، ولم يتم تقديم سوي مليار دولار، بواقع 500 مليون دولار لكل من السعودية وقطر، وفي اعتقادي أن السبب في تراجعها هو عدم اطمئنانها للأوضاع الحالية غير المستقرة، وقد تكون في انتظار انتخاب رئيس الجمهورية, ووجود مؤسسات دائمة, وليس مؤقتة, حتي يمكن التعامل معها، والدول الأجنبية قد تكون في حالة ترقب لما تسفر عنه الأوضاع السياسية في البلاد، فضلاً عن أن ثورتنا جاءت في ظل أزمة اقتصادية كبيرة في العالم، فاليورو مهدد, وبعض دول أوروبا تطبق خطط تقشف. كيف تنظر لمحاكمة الرئيس المخلوع؟ - الناس لن تطمئن إلا بالإدانة, والغالبية من الناس ستشعر بإحباط إذا انتهي الأمر دون حكم, وهذا رأي سياسي، خاصة أن الثقة في جميع مؤسسات الدولة مفقودة، ولاتوجد ثقة كبيرة في النيابة, وأن أدلة الاتهام المقدمة ضعيفة, أو تم التعمد في إضعافها، وقد يكون الحكم ب10 سنوات حد أدني مقبولاً.. والناس لديها حكم مسبق عليه, ولذلك عدم صدور حكم علي درجة من القسوة ستتأكد الناس أن هناك تدخلاً. يوجد أمل في استرداد الأموال المهربة للخارج؟ - الحديث عن الأموال المهربة مبالغ فيه، هناك بالفعل أموال هربت, وأخري سرقت، وأعتقد أن حجم المهرب في حدود 1.5 مليار دولار، ومن مصلحة الدول المستقبلة للأموال المهربة ألا ترد الأموال, وتجارب الدول التي حدث بها أمور مشابهة تؤكد ذلك، والأمل في عودة الأموال ضعيف، وأتوقع العودة بعد 10 سنوات, وبنسبة محدودة من الأموال المهربة. في رأيك هل صفقات تصدير الغاز إلي إسرائيل أضرت بمصر؟ - أضرت ضرراً بالغاً، فلم نحصل علي السعر العادل، وتمت الصفقة بشروط تدعو للاستغراب، كما أن إدارة وزارة البترول لاتفاقات البترول والغاز ليس فيها شفافية. ما روشتة إصلاح الاقتصاد في تصورك؟ - الشعور بالأمن يتخطي الاكتفاء بعودة الأمن, وتوفير موارد مالية عاجلة من خلال المؤسسات الدولية والعربية لتشغيل الطاقات العاطلة ودوران عجلة الإنتاج, وإيجاد نظام سياسي مستقر واضح المعالم, واتجاهاته السياسية والاقتصادية معروفة ومحددة يؤمن باقتصاد السوق, ودور القطاع الخاص, وإجراء إصلاح مؤسسي شامل, إقرار قانون استقلال القضاء, وإيجاد نظام ضريبي، وتهيئة مناخ الاستثمار لاستقطاب المزيد منها, والعمل علي زيادة المدخرات من 17٪ إلي 30% والدفع بها للاستثمار المحلي.