كانت عيناه مليئتين بالحماس عندما أشار إلينا بالتوقف لتفتيشنا وتفتيش السيارة التي كنا عائدين فيها من ميدان التحرير، وبالرغم من صغر سنه وعدم ارتدائه لأي ملابس رسمية كالتي يرتديها رجال الشرطة إلا أننا توقفنا بكل ذوق واحترام واتبعنا تعليماته. طلب البطاقة الشخصية ليستوثق منها.. نظر إليها نظرة سريعة وقلبها في يده من الأمام ومن الخلف ثم أعطاها لنا، كان يبدو عليه شىء من الارتباك إلا أنه حاول التماسك، ثم ما لبث أن طلب فتح شنطة السيارة الخلفية ليتأكد من عدم وجود شيئا مريبا فيها، وهو في طريقه لتفتيشها لاحظ أن هناك نساءً وأطفالا في الكرسي الخلفي فما كان من صديقه إلا أن أسرع إليه ليوقفه ناهرا إياه: ألا ترى الأطفال والسيدات في الخلف، وأشار لنا بالرحيل دون تفتيش أو انتظار أكثر من ذلك. في نقطة التفتيش الثانية التي مررنا بها وكانت عبارة عن مجموعة من الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين ال13 وال17 عاما، كانوا يشعلون بعض النار لتدفئة أنفسهم من الجو شديد البرودة، طلبوا منا هم أيضا الوقوف ولكننا لم نتضايق أبدا ولم نعلق حتى بأنه تم تفتيشنا من قبل، بل كنا نراقب ملامحهم الصغيرة وتصرفاتهم الدقيقة وكيفية تحملهم المسئولية ونحن في غاية السعادة. إنجازات الصغار وفي النقطة الثالثة كان الشباب أصغر سنا أستطيع أن أقول إنهم كانوا أطفالا، فسنهم لم يتجاوز بأي حال من الأحوال العشر سنوات.. ركزنا هذه المرة في ملامحهم ونظرنا في عيونهم، ولم نجد غير نظرات باحثة عن مكانه بين الآتين والخارجين من المكان. كان ينظر لنا ليثبت لنفسه أنه يقوم بدور مهم نقدره ونحترمه ونعتز به لأنه يقوم بحمايتنا، قال لنا هل تسكنون هنا؟ وما هو عنوانكم بالضبط؟ بالطبع أجبناه حتى يجعلنا نمر. في هذه الليلة – ليلة الثلاثاء المليوني الموافق 30-12-2011 والذي تجمع فيه الشباب والنساء والأطفال والرجال وكبار السن وحتى المعاقين في ميدان التحرير- لم نصل بيتنا إلا بعد أن مررنا تقريبا وبدون مبالغة بحوالي 20 نقطة تفتيش، كانوا جميعهم من الشباب الصغير في السن لم يتعد أبدا العشرين عاما.. كانت تدفئهم الصحبة.. كانوا يتحدثون سويا.. كانوا يتفقون فيما بينهم على دور كل منهم، وماذا سيفعلوا بالضبط في حال ضبطوا مسلحا أو خارجا عن القانون، كانوا يضعون قوانين لابد أن تُتبع ومنها أنه في حال مرت سيدة أو طفل أو حتى أسرة مع بعضها البعض فلن يفتشوها بل سيفسحون لهم المجال حتى يصلوا بيتهم سريعا وبسلام. دعوة للتفكير هذا المشهد يجعلنا نفكر.. هل نحن بالفعل نعطي أبناءنا الفرصة لإثبات أنفسهم؟.. هل نحترمهم ونقدرهم.. هل نسند لهم دورا يشعرهم أنهم سيكونون رجالا شرفاء يُعتمد عليهم؟ هل هناك مشروع للدولة أو مشروع للأسرة حتى ننتج شبابا ورجالا وأمهات عظماء؟ الإجابة قد تكون جلية في السخرية من إمكاناتهم في كل وقت وكل حين (فهو الشباب المدمن، الشباب التافه، الشباب غير الواعي بالمسئولية).. قد تكون الإجابة واضحة في قهر طموحاتهم داخل المدارس، وكبت أحلامهم داخل البيوت، وإلا فلماذا لا يجد الشباب الأنس سوى بصحبة بعضهم بعضا؟ لماذا يحاولون الفرار من الدراسة، ولماذا لا يحبذون العودة للمنزل؟ تفسر وفاء أبو موسى، الأخصائية النفسية، هذا الأمر قائلة: الأطفال في سن المراهقة يحتاجون لمن يدعمهم نفسيا وروحيا.. يحتاجون من يثني عليهم ويعزز من همتهم ويقويهم، لكن أحيانا انشغال الآباء لا يجعلهم يركزون سوى على سلبيات الأبناء خصوصا في هذه السن الحرجة.. فنجدهم يمنعونهم من ممارسة هواياتهم، ويطلبون منهم التركيز في مذاكرتهم فقط مما ينمي لديهم الشعور بالكبت، نفس الأولاد نجدهم يفضلون قضاء كل الوقت خارج المنزل لأنهم يبحثون في الخارج عمن يدعمهم.. يبحثون عن دور بين أصدقائهم وأحبائهم.. ومن المفترض أن يكون الآباء هم من يقومون بإعطائهم هذا الدور والتركيز فيه والتخطيط له، كذلك الدولة يجب أن تستهدف عمل معسكرات لتخريج شباب واع وناضج. ذكاءات متعددة ولكن للآسف - والكلام مازال على لسان وفاء موسى- في جميع دولنا العربية نجد أن الدولة لا تهتم بأحد.. أما الآباء فيركزون في مستقبل الابن المهني لذا يجب أن يذاكر ويأتي بمجموع يؤهله لدخول كليات القمة التي هي أصلا مفهوم خاطئ، فلا يوجد شيء اسمه قمة وآخر غير قمة. فجميع الأبناء لهم قدرات وإمكانات ولكن بنسب وأوزان مختلفة ونظرية الذكاءات المتعددة قد أثبتت ذلك. لذا يجب على الآباء الانتباه لهذه النقطة جيدا فقد خرج الأبناء من القمقم الذي حبسناهم داخله كآباء وكجهات مسئولة، وأخذوا يبحثون عن دورهم في شوارع القاهرة بين المتظاهرين أو في لجان الحماية الشعبية.. فالدور الشبابي البارز فيما يدور في أحداث مصر الحديثة دوراً كان يبحث عن طريق للنور منذ سنوات عديدة، لكن لم ينل أي دعم أو تعزيز لما يطمح من حرية وكرامة، ولكنه أوجد لنفسه الآن الفرصة وصنعها بنفسه. فهؤلاء الشباب الثوار المصريون هم شباب مثقفون ولديهم مواهب واعية كبيرة لكن المحيط الوطني والاجتماعي لم يسمح لهم بالمشاركة في نهوض هذا الوطن وهذه الأمة بالرغم من أن الأوطان تصعد بهمة شبابها، وفي حال وجد الشباب أنفسهم ما بين العيش في ذل وعدم الحصول على أدنى الحقوق المدنية والسياسية فهذا الظلم يولد لدى الذات الكثير من الضغوط النفسية المتراكمة. إدارة متكاملة وتستطرد موسى قائلة: الشيء المميز إن شباب مصر ومراهقيها تميزوا في بناء الأدوار في حالة الأزمة بتكاملها سيكولوجيا بهدف الوصول لواقع اجتماعي آمن وسالم.. فمنهم من شارك بروح عالية من الشجاعة في اللجان الشعبية التي حلت مكان دوريات الشرطة لحفظ الأمن والأمان لسلامة شوارعهم وممتلكات المجتمع ومصالح الوطن.. ومنهم من واجه رجال الشرطة وترساناتها الغاشمة دون خوف.. بل هم من زرعوا داخل رجال الشرطة الخوف والرهبة. تلك الروح النفسية كانت مدفونة في أعماقهم يعبرون عنها عبر تشجيع الكرة والأولمبياد، وكانوا يملأون أوقاتهم بالجلوس على الإنترنت، لكن شتان بين الأمرين فالأول ينم عن مشاعر إيجابية عالية تجاه دورهم في الحراسات ضمن اللجان الشعبية وهذا الدور الوطني كانوا يفتقدونه تماما، أما مشاعرهم تجاه قضاء الوقت عبر الإنترنت أو متابعة الأولمبياد ومباريات الكرة فقد كانت مشاعر تملؤها الغبطة والسعادة أحيانا والاكتئاب والقهر أحيانا أخرى، وفي كلا المتناقضين لم يشعروا بتحقيق الذات كما شعروا في مشاركتهم في اللجان الشعبية لحماية مصر وأمنها.