تترى الدماء تتدفق في فيض غير مسبوق تحاصرنا تتداخل مع طعامنا وشرابنا تسكن غرف نومنا تسبق خطواتنا هل أضحي الدم لغتنا التي نتحدث بها؟ خيمتنا التي نقيم فيها؟ عتبتنا التي نعبرها؟ حدودنا التي تؤطر حركتنا؟ أخشى أن يتحول الدم إلى ماء يروي عطشنا، أن نمتطيه خيولا ونستسقيه بدلا من المطر الذي نصلي من أجله عندما يغيب عن مواعيده. أبكي أم أختزل بكائي في مرثية من دم يكتبها بلهاء يعبثون بنا بأرواحنا من أين جاءتهم كل هذه القدرة أو الطاقة على ري الأرض بدماء أشقائهم؟ بكيت على وسادتي في الطرقات في الميادين في الأسواق في الحافلات في الشوارع المزدحمة بالبشر ولا تكاد حركتها تخبو. بكيت في الصباحات وفي المساءات بكيت طويلا وكثيرا. سألت العرافين عن سر جذوة البكاء هي مدينة أم مقبرة؟ هم بشر أم أنعام مهيئة للذبح؟ سألت العرافين عن سر هذه القسوة هل يحمل القتلة قلوبا تنبض وأجسادا تشبه أجسادنا؟ هل لهم أيد مثلنا أم استحالت إلى سيوف وخناجر؟ سألت الأشجار التي تسكن المدينة: هل مر عليك قوم حالمون أم سارقون للفرح أم باترو رؤوس ورقاب وماضغو أكباد؟ من أي نار جاءوا؟ هل ولدتهم أمهات أم جاءوا إلى الدنيا عبر نبت شيطاني؟ خرجوا، ارتووا بدماء القادمين من الأمصار الأخرى، ارتقوا جبال القتل بكراهية استثنائية قطعوا الأوصال، قذفوا بالأجساد مزقوا الوجوه. هم بشر؟ لا هم مزيج من جنون وشهوة الدم خليط من شياطين الإنس، احتفى بهم شياطين الجن. اتحدوا جميعا على قتل البراءة وسحل الورود الطالعة قبل أن تبعث بأريجها في أنحاء المحروسة. ثانيا: ليست هي بورسعيد، ليس هؤلاء أهلها المعروفين بالشهامة والنجابة واحترام القادمين إليها. ليس بورسعيديا من يقتل هي مدينة زاخرة بأسرار المقاومة والممانعة وحرب الغزاة. هي رحلة طويلة في معانقة التاريخ الذي كتبته بدماء بنيها. هل تقتل؟ هل تذبح على هذا النحو الهمجي؟ لا. ليست بورسعيد ولا أبناؤها من القاتل إذن؟ من أحال المحروسة إلى دائرة العتمة؟ من قبض على اللحظة التي ظن أنه اقترب فيها من الانتصار؟ من بوسعه أن يطلق كل هذه الآهات تخرج من الأمهات الثكالى بفقد أكبادهن والصرخات من آباء قرروا كتم الدموع؟ من بمقدوره أن يفرض على المحروسة الصمت والخنوع والوقوف على بوابات الندم؟ ثالثا: صبرت المحروسة على العاقين الجالسين في طرة والقابضين على مفاصل الوطن مصرين على سرقته وإجهاض ثورته وإجبار شبابه على السكوت. صبرنا طويلا على لغة التخاذل والمماطلة والكتابة فوق الماء. صبرنا على غياب الرؤية بل قل فرط العتمة تصرخ الثورة فينا تنادينا لليقظة والتنبه والخروج من عباءة مبارك وسوزان، تسألنا كتابة زمن جديد مغاير. تبني لغة أخرى لكن ثمة من يسعى إلى بتر الحلم ليبقى في خانة السلطة. من يطيح بأشواقنا الكبرى ليظل قابضا على الثروة. تغيب المحروسة عن مفرداتهم يغيب الوطن عن أبجدياتهم فيهم نزوع إلى كتابة الدم على صفحة النيل رابعا: الجرعة الأخيرة قاتلة فمن بمقدوره أن يقدم الدواء من أين يأتي الدواء؟ من يحمي المدينة من حراسها؟ من يأتي لنا بزرقاء اليمامة يدفع عنا زمن داحس والغبراء أكابد في المدينة وجعي تتراقص أمامي صور الشهداء وأنات المجروحين تتوقف الأعشاش عن استقبال طيورها تبكي النوارس على سواحل البحار تكف السماء عن معانقة اليابسة تتلف الأشجار من يعيد وهج الثورة المسروق يطرز القصائد بالبهجة الغائبة إن سكنت الأنفس المستثارة خامسا: هي محروسة أبدا لن يسكنها الصمت أو القابضون على مفاصل الدم لن تغيب شموسها أو يتوقف نهرها عن الفيضان لن يسكت صوت الميدان لن تخفت فيها قناديل يناير أو صباحات مارس وأبريل طلعت ثورتها لن تخلع أثواب الحرية أو تكف عن الخفقان سادسا: جئتك أيتها المدينة حاملا سيفي لأشهره في وجه الطغاة حاملي قرابين الدم الكارهين للقمر من تسكن وجوههم قترة جئتك فاردا شراع قصيدتي مبحرا نحو الحلم كاتبا أيقونة الثورة متطلعا لسموات مفعمة بالمطر وقلوب تخاصم الحجر وأرض تغزل الحناء لصبايا بلادي وعناقيد تتجلى بعروش ليست خاوية جئتك أيا مصرا مطرزة بعشقي الأبدي فكوني لي الحنطة والأفق البعيد الذي يحتويني يعيدني إلى سيرتي الأولى محملا بحريتي وأبجديتي الأصيلة احمليني على سفينتك لا تلقي بي إلى أسماك البحر خذيني إليك السطر الأخير: دفتر العشق: أكتبه مفردا ليس دونه دفاتر أدسه بين ضفاف القلب وأهداب العيون أمنحه أولوية الإقامة في الروح والبقاء في الذاكرة والذوبان بعشيرتي والنداء لحظة الصحو والسكينة عند المنام هو فنجان الشاي في صباحاتي معزوفتي عند البوح بآهاتي هو القارئ والكاتب والمسكون بولعي الرافع اسمي بين القصائد المفتوح على بوابات الحلم هو الراحل في المدى وأسرار الأكوان المسافر إلى الحقول هو الحضور في الغياب والغياب في الحضور هو الوجد وطقوس الكتابة هو أنت صانعة الصبابة راسمة لغة البهجة رغم الوجع هو أنت تسكب رحيقها تستدعي الشعر في غير أوان نقلا عن صحيفة الشروق