تحولت إلى ورش صناعية ومحلات لبيع الأقمشة والورق والأدوات الكهربائية جمال عبدالناصر وليلى مراد.. أشهر من سكنوها الأهالى يتذكرون زمن التعايش بين أبناء الديانات الثلاث بين الولادة والرحيل تاريخ بشر وسير أمكنة وحيوات شعوب، فحينما ولدت فى نهاية عام 1966، كان حوالى 150 ألفاً من سكان حارة اليهود فى حى الموسكى الشهير، يستعدون للرحيل بعد شهور قليلة من دخول مصر حرباً خاسرة مع إسرائيل سميت بنكسة 1967، ينتظرهم مصير مجهول وحسرة تسكن فى القلوب على هويتهم المصرية الضائعة. حمل يهود الحارة فوق ظهورهم حقائب ذكريات الطفولة، وعشرة الجيران الطيبين من مسيحيين ومسلمين وأوقات العمل الرابحة فى حى الصاغة المجاور، وتقربهم إلى العلى القدير يوم السبت فى معبد موسى بن ميمون القابع فى قلب الحارة يوزع البركات، وتسقط أشجار التوت ثمارها فى باحته الخارجية فتلتقطها أيادى أطفال الحى فى سعادة ونشوة دون تفرقة بين دين أو مذهب. خمسون عاماً مرت من عمرى ومن عمر الحارة شكلت صفحة غامضة من كتاب الوطن لأبناء جيلى الذين لم يعاصروا يهوداً مصريين أو عاشوا بينهم الذهاب إلى حارة اليهود محاولة للإمساك بتلابيب ذكريات عجائز الحارة وشيوخها واتفاق ضمنى للإجابة عن تساؤلات الدكتور محمد أبوالغار التى طرحها فى كتابه الشهير (يهود مصر من الازدهار إلى الشتات)، مع الإيمان بفكرة المواطنة التى شغلته لسنوات طوال، والتصديق على حكايات والده عن زملائه اليهود المصريين فى الدراسة والعمل، ومنهم رئيسه فى البنك مسيو «بتشوتو»، وهو من عائلة سكندرية يهودية قديمة وشهيرة، دائما كان يذكر كفاءته وأمانته، مما دفعه للبحث عن إجابات لأسئلة عديدة منها ماذا قالوا عن مصر؟ وماذا كان شعورهم نحوها؟ وهل اختلف هذا الشعور فى مختلف الفترات الزمنية اللاحقة؟ وماذا يذكرون عنها؟ هل يشتموننا؟ هل يكرهوننا؟ هل يحبوننا ويحملون فى قلوبهم ذكريات جميلة عن حياتهم فى مصر؟ فالكثير منهم لم يفقدوا اهتماماتهم بمصر بعد الرحيل، إذا كانوا مصريين فعلاً؟ وإذا كانوا كذلك فلماذا تركوا الوطن؟ هل تركوه طواعية أم تحت الضغط عليهم لكى يرحلوا؟ وسط أمواج البشر المتلاطمة فى شارع الموسكى الشهير بصخبه وصراخ باعة أرصفته، دلفت من إحدى فتحاته المفضية إلى حارة اليهود، لأجد نفسى فى متاهة، تضيق أزقتها بتجار الأقمشة والملابس ولعب الأطفال والإكسسوارات النسائية وورش لصياغة الذهب، طلاء المعادن النحاسية والحديدية، النجارة والأثاث، محلات بيع الأقمشة، الذين يحتلون مداخل البيوت وطابقها الأول والتى ما زالت تحتفظ فى واجهتها العليا بنجمة داود الشهيرة، محدثين فوضى عارمة نتيجة للمماطلة فى عمليات البيع والشراء مع زبائنهم من نساء وتجار وأصحاب مصلحة. محاولة الوصول إلى أقدم سكان الحارة وعجائزها باءت بالفشل عدة مرات، فكلما مشيت فى زقاق أو وصلت إلى نهاية عطفة أرجع إلى نقطة البداية مرة أخرى، لأدرك مع استهلاك الوقت أن حارة اليهود ليست حارة بمعناها المعمارى التقليدى بل هى حى بأكمله يشغل مساحة 2 كيلومتر مربع تقريباً، تبدأ من وسط شارع الصاغة، تتفرع بداخلها حوالى 12 حارة وزقاقاً، تكثر به المنحنيات والعطف، ويقال إنها كانت تضم نحو 13 معبداً لم يتبق منها سوى ثلاثة فقط، أشهرها معبد «موسى بن ميمون» الذى كان طبيباً وفيلسوفا شهيرا فى بدايات القرن الثانى عشر الميلادى، وكان مقربا من السلطان صلاح الدين الأيوبى، ويقال أن بداخل المعبد سردابا يقود إلى الغرفة المقدسة، وفى طقوس اليهود من يدخل هذا السرداب يجب أن يكون حافى القدمين. أما المعبد الثانى «بار يوحاى» فيقع بشارع الصقالبة، بينما الثالث فى درب نصير وهو معبد «أبوحاييم كابوسى». وتتصل الحارة عن طريق سبعة منافذ بحى الخرنفش وجنوب الحسينية، وتجاور شارع الموسكى وخان الخليلى والصاغة وحى الحسين، وقد فصلها عن شارع الحمزاوى (سوق الحمزاوى الكبير) شارع الأزهر عند شقه عام 1930 م. كان سكان الحارة ينتمون إلى الطبقة الوسطى قبل ثورة يوليو 1952، وكان يسكنها حرفيون من أصحاب الديانة اليهودية فى الأساس الذين تميزوا بصناعة الذهب والفضة والأحذية ومواقد الجاز وإصلاحها وترميم الأثاث، كما تركز عمل التجار منهم فى الأقمشة والورق والأدوات الكهربائية حتى من نال شهرة من الفنانين اليهود خرج من الحارة مثل الفنانة الجميلة ليلى مراد التى سكنت الحارة أيام شبابها وقبل زواجها من الفنان أنور وجدى. ذكريات ضبابية السؤال عن سيرة سكان الحارة من اليهود أشبه بالبحث عن جرام من الحقيقة فى وسط أطنان من ذكريات الضباب والأساطير والمعلومات المغلوطة عنهم. البداية مع عم محمد رجب الساكن بالمنزل رقم 16 بحارة اليهود والذى كان ملك اليهودى جاك بيتون الذى هاجر إلى فرنسا وليس إسرائيل فى بداية ستينات القرن الماضى وكان تاجراً ثرياً يملك عدة محلات أقمشة فى شارع الحمزاوى، وأصبح المنزل بعد رحيله تحت الحراسة المصرية يقول: يهود الحارة الذين رفضوا الهجرة إلى إسرائيل وترك وطنهم تُوفوا تباعاً ولم يبق منهم أحد، كانت عشرتهم طيبة وليسوا يهوداً صهاينة مثل الذين يعيشون فى دولة إسرائيل، لقد عاصرتهم وأنا طفل صغير وكانت جارات أمى اليهوديات مثل مدام راشيل ومدام غالية ومدام جان وأولادها دودى وصولو يطلبون منى أن أشعل لهم يوم السبت قناديل من القطن صغيرة موضوعة فى طبق من الزجاج الشفاف حيث كان محرماً عندهم أن يوقدوا ناراً أو يذبحوا فى ذلك اليوم وكانت مكافأتى قطعاً من الحلوى اللذيذة، أما مدام فورتو فما زال عداد النور فى شقتها يأتى باسم زوجها الخواجة بيتر حتى الآن، كما أن ابنتها نورا آخر شابة يهودية تركت الحارة فى عام 1982. ولقد بكوا بمرارة حينما رحلوا عن الحارة. يصمت عم محمد قليلاً وكأنه يتذكر شيئاً مهماً لم يخبرنى به ليقول بعد لحظات: أثناء ثورة 25 يناير جاء عدد كبير من اليهود هنا وسألوا عن المنزل ووجدت فتاة تقترب منى وتقول إن جدتها جارتنا مدام راشيل وتريد أن تتصور معى لأننى أذكرها بذكريات جدتها فى مصر. أسأل عم محمد بشكل مباشر: هل تحب أن يعود اليهود إلى مصر؟ فيجيب سريعاً بدون تفكير: هيجوا يعملوا إيه؟ خليهم فى مكانهم عايشين. حياة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر فى منزل شموئيل القرائى بشارع خميس العدسى بحارة اليهود مليئة بأساطير سكان الشارع عن الزعيم والمنزل الذى كان يسكنه. يقترب منى صاحب ورشة حدادة أسفل المنزل هامساً: المنزل مغلق منذ فترة طويلة فى انتظار هدمه، كل سكان الشارع يعرفون أن الرئيس جمال عبدالناصر عاش فى هذا المنزل وعمره ثمانى سنوات لاستكمال دراسته. فى مفرق حارتين يقع محل ضيق لا يتسع لأكثر من شخص، استقبلنى عم سيد بسنوات عمره السبعين بضحكة صافية ورضا بتجارة الورق المتواضعة قائلاً: عشرة اليهود كانت حلوة ووالدى كان يبيع ليهود الحارة الخضراوات وكانوا يحبونه، ولقد كنت وأنا طفل صغير ألعب مع أطفال اليهود فى الأوديش وهو عبارة عن مكان واسع مربع الشكل يتكون من طابقين، كل طابق يحتوى على مجموعة صغيرة من الغرف الضيقة، وتحولت حالياً إلى ورش، أما المتبقى منها فيسكنه الأهالى. يضيف عم سيد قائلاً: الأوديش هو مجمع إيواء فقراء اليهود، وكان يتكفل فى الصرف عليهم أثرياء اليهود، وكان يوجد فى الحارة حوالى 10 أوديشيات، يعنى تقدرى تقولى إنها تشبه التكية عند المسلمين. يجلس «عم عبده» على مقهى فى أول درب نصير بجلبابه الأبيض ولحيته التى لم يهذبها منذ عدة أيام، يلقى على الجميع السلام حتى الشباب الذى يمر من أمامه ويبدو أنه لا يعرفه ولكنه لا يبالى. ألقيت عليه التحية وقبل أن أكمل تقديم نفسى ابتسم ودعانى للجلوس إلى جواره وكأنه ينتظرنى منذ فترة لكى يفتح قلبه وعقله للذكريات التى ربما مل من حوله من تكرار سماعها. يقول عم عبده الذى قاربت سنوات عمره الثمانين: أعيش فى حى المعادى حالياً أنا وأبنائى ولكنى كالسمك أحن للحارة ولا أستطيع أن يمر يوم دون أن آتى إليها، كما أننى أمتلك مصنعا صغيرا لتصنيع المشغولات الذهبية، عبارة عن عمارة تتكون من عدة طوابق كلها ورش لتصنيع الذهب ويعمل فيها الآن أولادى وأحفادى أيضا. ويؤكد عم عبده على أنه طوال عمره المديد كان أسطى فى تصنيع الذهب فهو يقوم بابتكار الموديلات للمشغولات الذهبية مضيفاً: لقد شربت الصنعة من الخواجة اليهودى «لويس متاتيا مرزوق» وهو يهودى كان يمتلك ورشة لتصنيع الذهب، وكنت أعمل معه ولم أتركه إلا حينما ذهبت إلى حرب اليمن وتم إعطائى مكافأة فتحت بها ورشتى الخاصة لتصنيع المشغولات الذهبية. يشير عم عبده إلى المبنى المتهالك الذى نستند على حائطه قائلاً: هذا المبنى دار مناسبات يهودية، كان يتم فيه عقد مختلف طقوس الزفاف أو توديع الموتى، لكنه أوصد منذ أوائل الستينيات. وينظر عم عبده إلى بعيد وكأنه يحدث نفسه: الحارة كانت نظيفة وجميلة، كلها عبارة عن منطقة سكنية يقطنها اليهود مع أقلية من المسلمين، بينما المسيحيون يتمركزون فى حارة زويلة، ورغم ذلك لم تكن هناك مشاحنات أو مضايقات بين فئة وأخرى، بل على العكس كانت هناك حالة من الود تسود أجواء الحارة وكنت تجدين مسلماً متزوج من يهودية أو مسيحى من يهودية وتسير الأمور طبيعية يسودها المحبة والتسامح، كنا بالمفهومية نعرف أن مصر وطنا جميعاً من مسلمين ومسيحيين ويهود، أما الدين لله وحده.