عزمت جماعة من طلبة العلم على الحج، وأحب الإمام أحمد بن حنبل أن يطمئن عليهم، ولفت انتباهه شأن أحدهم، حيث استعد كل واحد من الجماعة بالزاد والنفقة إلا طالبًا لم يجهز شيئًا!! فسأله الإمام أحمد بن حنبل عن سبب ذلك، فأجاب الطالب: أنا متوكل على الله!! فقال له الإمام أحمد: ألست مع القافلة؟! فأجاب الطالب: بلى، إني معهم. فقال له الإمام أحمد: أنت متوكل على القافلة. هذا موقف تربوي يبين لنا حقيقة التوكل على الله تعالى، ويعالج وهمًا شاع بين الناس حين يتركون أنفسهم عالة على من حولهم، وعبئًا على إخوانهم، ظنًا منهم أن هذا توكل على الله تعالى. لذلك لم يرض الإمام أحمد بن حنبل لطالب العلم أن يترك الأسباب فلا يعد الزاد ولا النفقة، ويترك نفسه عالة على القافلة، ويقول: أنا متوكل على الله، فأرشده الإمام بقوله: أنت متوكل على القافلة. إن الله تعالى أمرنا في قرآنه الكريم أن نأخذ بالأسباب، والآيات في هذا المعنى كثيرة، من ذلك قوله سبحانه: «وقل اعملوا..» وقوله: «فاسعوا..» وقوله: «فانتشروا..». فكيف يكون ترك ما أمرنا الله به توكلاً عليه سبحانه؟! إن فعل السبب طاعة، لأن الله أمرنا أن نأخذ بالأسباب. وترك السبب معصية، لأنه مخالف لما أمرنا الله به. والتوكل هو الاعتماد علي الله تعالي، والاعتقاد الخالص بأن النافع هو الله، وأن الضار هو الله مع الأخذ بالأسباب، وقد قال بعض السلف الصالح: «حقيقة التوكل: الجوارح تعمل، والقلوب تتوكل». وغياب أحد الأمرين «عمل الجوارح أو توكل القلوب» يحول التوكل الي شيء آخر، فغياب الأخذ بالأسباب، مع القدرة عليه، يؤدي الي التواكل، وغياب اعتماد القلب علي الله يؤدي الي الشرك، وقد وصف العلماء المحققون من السلف الصالح حقيقة التوكل في ثلاث كلمات: «فعل السبب طاعة، وترك السبب معصية، والاعتماد علي السبب شرك بالله تعالي». وقد جاء رجل إلي النبي صلي الله عليه وسلم فقال: أرسل ناقتي وأتوكل؟ قال صلي الله عليه وسلم: «اعقلها وتوكل». ويبصرنا رسول الله صلي الله عليه وسلم: بثمرة التوكل الحق بقوله صلي الله عليه وسلم: «لو أنكم توكلتم علي الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً، وتروح بطاناً». أي: تذهب الطير أول النهار جائعة، وترجع آخر النهار ممتلئة البطون. ووعد الله من توكل عليه أن يكفيه، قال تعالي: «ومن يتوكل علي الله فهو حسبه» «الطلاق/3». أ: كافيه. وجعل الله التوكل الحق من صفات المؤمنين، قال تعالي: «إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم ايمانا وعلي ربهم يتوكلون» «الأنفال/2». وثمة درس آخر في هذا الموقف، وهو أهمية الملاحظة في العملية التربوية، كي يتحقق المعلم والمربي من صواب الفهم، وصحة التطبيق عند تلاميذه. وهذا هدي نبوي كريم، فقد كان صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يلاحظ أصحابه "صلى الله عليه وسلم" ويوجههم ويرشدهم. وفي هذا الموقف أثمرت الملاحظة تصحيح مفهوم خاطئ وقع فيه أحد التلاميذ، ظنًا منه أن هذا من التوكل، وقد صحح الإمام أحمد له هذا الفهم وأرشده. اللهم أرزقنا حسن التوكل عليك، ودوام الإقبال عليك.. يارب العالمين.