يذكرك «الرفيق» جيريمي كوربن بقادة اليسار في ستينات القرن الماضي وسبعيناته. معظمهم من مثقفي الطبقة الوسطى. بعضهم «خان طبقته» فعلاً وانحاز إلى قضايا العمال. وبعضهم كان يدعي الثورية للانتساب إلى الوسط الثقافي ويبتعد من «اليمين الغبي»، وما أن يرى أمامه منصباً أو ثروة حتى يرفع راية العنصريين ويلوح بها عالياً. كوربن، وقبله الراحل توني بن، هو الأكثر تمسكاً بمبادئ اليسار البريطاني ذي الأصول «الفابية» (التغيير من خلال المؤسسات من دون ثورة حمراء) التي نشأت في القرن التاسع عشر، وانضم أعضاؤها، وبينهم برنارد شو، إلى حزب العمال الذي أسسته النقابات. يخوض كوربن صراعاً داخل حزبه ضد «البليريين» أو ما يعرف ب «الطريق الثالث» الذي مثله توني بلير في بريطانيا، وبيل كلينتون في الولاياتالمتحدة، وهو تيار يدعي الحياد بين اليمين واليسار. لكن تجربته في الحكم أثبتت أنه أكثر يمينية ودموية من مارغريت ثاتشر ورونالد ريغان. وأكثر ميلاً إلى حل أزمة الرأسمالية بالحروب. بلير خاض حرب العراق إلى جانب بوش الابن، بناء على كذب تردد صداه عبر شاطئَيْ الأطلسي، وسبقه كلينتون إلى تشديد الحصار على العراقيين وقتل عشرات الألوف منهم جوعاً أو مرضاً، أو باليورانيوم المنضب. عاد «الرفيق» إلى القواعد الشعبية لمواجهة النيوليبيراليين الذين وصل بعض رموزهم إلى قيادة حزب العمال وحاولوا إطاحته فالتف حوله أكثر من خمسمئة ألف انتسبوا إلى الحزب وأفشلوا المؤامرة، فخرج أكثر ثقة بنهجه الديموقراطي واعتماده على القاعدة الحزبية، متجاهلاً الحملات الإعلامية الضخمة التي شنها عليه معظم الصحف ووسائل الإعلام التي يسيطر عليها أصحاب المصالح والشركات الكبرى، خصوصاً إمبراطورية روبرت ميردوخ الإعلامية. انتصار «الرفيق» على الطريق الثالث والنيوليبيرالية داخل حزبه منحه ثقة كبيرة لمواجهة اليمين في المؤسسة الحاكمة، فخرج ببرنامج انتخابي يعزز دور الدولة في كل القطاعات، ويؤمم بعضها، ويفرض ضرائب على أصحاب الرواتب المرتفعة والشركات لتمويل برنامجه، وتعزيز دولة الرفاه التي كادت تنتهي في بريطانيا المتجهة، مع النيوليبيرالية، إلى الأمركة. في السياسة الخارجية يقف كوربين ضد الحروب الأميركية- البريطانية، خصوصاً في الشرق الأوسط. كان ضد الحرب على أفغانستانوالعراق، واعتبرها خطأً تاريخياً يجب تصحيحه بوقف التدخل الخارجي والبحث عن حلول سلمية للأزمات التي تعصف بالعالم. ويعتبر بريطانيا مسؤولة عن القضية الفلسطينية باعتبارها كانت دولة احتلال ساهمت بشكل فاعل في إنشاء دولة إسرائيل وطرد الفلسطينيين من بلادهم. هذا الموقف جعله وعدداً من قادة حزب العمال عرضة للاتهام «القاتل» باللاسامية، خصوصاً رفيقه رئيس بلدية لندن السابق كن ليفينغستون الذي ألصقت به هذه التهمة لأنه قال: «عندما فاز هتلر في انتخابات 1932، كانت سياسته تقضي بنقل اليهود إلى إسرائيل. كان يؤيد الصهيونية قبل أن يصبح مجنوناً وينتهي بقتل 6 ملايين يهودي». أوروبياً، يؤيد كوربن انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي لكنه لا يرفع شعارات شوفينية مثل حزب المحافظين، ولا يدعو إلى طرد الأجانب من بريطانيا، مثله في ذلك مثل معظم اليسار في القارة، وهو أقرب إلى موقف جان لوك ميلانشون الذي خسر الانتخابات الرئاسية الفرنسية لكنه أعاد اليسار إلى الخريطة السياسية، بعدما أصبح الحزب الاشتراكي مع فرانسوا هولاند أكثر يمينية من اليمين. قد لا يفوز «الرفيق» كوربن في الانتخابات لكنه يثبت موقع اليسار في المؤسسة الحاكمة ويحافظ على إرث «الفابيين» بالنضال السلمي. نقلا عن صحيفة الحياة