النساء نوعان، امرأة قادرة على الاحتواء وأخرى تضع الاحتواء ذاته، ونهاد صليحة من هذا النوع الثانى الذى يجعلك تدخل فى تفاصيل محتوى انسانى يفيض بالعطاء، والقدرة على اتخاذ القرار، امرأة ذات رؤية وجدانية فريدة قد يراها البعض غريبة، ولكن هى فى الواقع سر الوجود، ففاقد الشىء لا يعطيه لذلك لم يكن عجيباً عندما قالت لى: «حبى حياتك، وابعدى عن دور المضحية، لأن الحياة لا تتحمل المضحى كثيراً، والحياة لا تستمر إذا نسيتى نفسك ورسالتك التى خلقك الله من أجلها فى الحياة». فهذا هو الإطار الأول الذى يضع فيه المبدع محتواه ومنه ينطلق ويعود إليه. تواصلت مع الدكتورة الراحلة نهاد صليحة كمصدر صحفى، فهى السيدة المتواجدة فى كل العروض المسرحية التى أذهب إليها، ولذا قررت الاقتراب وتتبع مشوارها لا أعرف طريقتها فى النقد وسرها الذى يحتوى هذا الحضور الغريب عندما تتواجد فى أى عرض مسرحى، من خلالها قررت أن أتعرف على فن المسرح، والذى كان بعيداً عن دراستى، فخضت تجربة تعلم النقد مقتديه بها كنبراس لى يضىء خطواتى نحو الامتزاج بالمعنى الحقيقى لأبى الفنون...ومع كل يوم أستشعر أن لتلك السيدة مكانة خاصة فى هذا العالم المبهر تصنعها لنفسها من خلال ثقافتها النادرة وإلمامها بكل تاريخ المسرح المصرى والعربى والعالمى إلى جانب قدرتها الفائقة فى الدخول إلى أعماق الشخوص التى نراها على خشبة المسرح، وكأنها تلتحم بها ويدور بينهما حوار متواصل تعرف من خلاله مكنون ما يريده المبدع وكتبه على الورق ثم تذوقه مبدع آخر لينطلق كطاقة إبداعية تختزل الوجود كله فى مساحة هى خشبة المسرح. تتلمذت على يدها بمعهد النقد الفنى، وكان الغريب أنها شخصية مختلفة تماماً عن كل من تتلمذت على يديهم، لم يكن لديها معايير فى التعليم، لم تلقنى درساً لكنها علمتنى كيف أكون باحثة، لحسن الحظ تمكنت من إقناعها بأن تشرف على فى مشروع الماجستير وكان أول اختبار حقيقى لى عندما أخبرتنى «لن أوافق على رسالتك إلا إذا اقتنعت بفكرك»، عندما اخترت موضوعاً عن نجيب محفوظ قالت لى أنا غير متخصصة فيه، لكنها قررت أن تدرسه معى، وتعيد قراءته من جديد، فهى ترى أن ما قرأته سابقاً من إبداع نجيب محفوظ لا يؤهلها لأن تتحول إلى قاضى يحكم على مفرداتى وأفكارى التى سأصيغها ضمن رسالتى ومن هنا قررت أن تتحول بإرادتها من أستاذة إلى طالبة تسبقنى بخطوات عدة هى رصيدها الكبير من القدرة على الاستيعاب والتحليل، عندما أقف أمامها فى معلومة تخبرنى بأنها ستبحث عنها وأجدها فى مساء اليوم تتصل بى لتخبرنى وصوتها يضحك «وجدتها» ما تعجبت له كيف لهذه السيدة العبقرية أن تشعر بسعادة الأطفال عندما تجد معلومة ولكن القدر لم يمنحنى فرصة التعايش مع تلك التجربة الفريدة التى كنت أحلم من خلالها أن أتذوق نجيب محفوظ بشاعرية نهاد صليحة. رحيل الناقدة نهاد صليحة لم يكن سوى نهاية حياة، لكنه لا يمثل نهاية أبدا لمشوار طويل من العلم والثقافة والنقد، أقل ما يقال عنها إنها قدمت رسالة سامية فى مجال النقد المسرحى كانت الأستاذة الدكتورة نهاد صليحة تتعامل مع عملها كمسلمات حياتية عاشت حياتها من أجلها وخاضت طريقها نحو هدف واحد وهو العلم، لذا تركت خلفاً لها إرثًا ثقافيًا ونقديًا قادراً على أن يصل إلى أجيال وأجيال. نهاد ابنة كلية الآداب جامعة القاهرة، خاضت تجربة التمثيل على خشبة المسرح فى شبابها، وهى تلميذة وزوجة المترجم والناقد الكبير د. محمد عنانى، تعبر بشخصيتها وإنجازها عن حالة فكرية إبداعية نادرة، ولدت نهاد بحى شبرا وكان منبعاً لدراستها لكل شىء فهى تعلمت كيف تتعامل مع كل الفئات وعاشت حياة اختلاف الثقافات ما كان له أكبر الأثر فى حياتها، فهى أستاذة أكاديمية وناقدة مسرحية حصلت على ليسانس الآداب «كلية الآداب جامعة القاهرة»، قسم اللغة الإنجليزية عام 1966، كما حصلت على ماجستير اللغة الإنجليزية وآدابها من كلية الدراسات الإنجليزية والأمريكية «جامعة ساكس بإنجلترا»، ثم حصلت على دكتوراه الدراما من كلية الدراما جامعة إكسترا بإنجلترا، وعملت بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة الملك عبدالعزيز بالسعودية كمدرس لمادة الدراما وشكسبير، ثم أستاذاً مساعداً للنقد والدراما بالمعهد العالى للنقد الفنى، بأكاديمية الفنون، ثم عميداً للمعهد العالى للفنون المسرحية بالقاهرة، كما أشرفت على قسم النقد المسرحى فى جريدة الأهرام «ويكلى» باللغة الإنجليزية وتحرر القسم أسبوعيا منذ عام 1989 حتى وفاتها. وكان لها العديد من المؤلفات المسرحية، من بينها كتب «التيارات المسرحية المعاصرة»، «المسرح عبر الحدود»، «الحرية والمسرح: التنوير»، «ما بعد الحداثة والفنون الأدائية»، «الحرية والمسرح»، «المسرح بين الفن والفكر»، «رؤى مسرحية»، «امرأة بين الفن والعشق والزواج»، «أمسيات مسرحية». ولها عدة مؤلفات باللغة الإنجليزية من بينها: مسرحيات ومسرحيون»؛ «المسرح المصرى: اتجاهات جديدة»، «مسرح لورد بايرون، قراءة حداثية» تؤكد مؤلفاتها على مجال نظرتها النقدية الواسعة، فبين المسرح والتنوير والأدب والقضايا النسوية والفكر واهتمامها بنقل الحراك المسرحى المصرى إلى الأوساط العالمية.