دائمًا الأمم عبر تاريخها تتباهى بتراثها وإبداعها، حتى أن هناك دولًا كثيرة ليس لديها تاريخ إبداعى، وعلى رغم ذلك تحاول أن تشترى لنفسها ما يجعلها فى صفوف الدول ذات الحضارات، لكن التاريخ يقول أيضًا: إن المال لا يصنع حضارة والثروة لا تصنع إبداعًا. ومن الجميل أن دولة بحجم مصر تمتلك تاريخًا طويلًا وعظيمًا من الإبداع فى شتى الفنون، فى الغناء والموسيقى مصر هى الدولة الأولى عربيًا وإفريقيًا وعالميًا التى قدمت للعالم مئات من المبدعين، بداية من سيد درويش صاحب النقلة الأولى فى عالم الموسيقى العربية، الذى حول الغناء من «أمان يا لالالى» إلى شكل آخر من الغناء أكثر تطورا ومعاصرة أصبح للأغنية شكل وطعم وإحساس جديد، فهو صاحب المدرسة التعبيرية الذى نقل الأغنية من دنيا القصور إلى الحارة فأصبح الشعب المصرى والعربى يغنى لسيد درويش، وهو الذى حول الأغنية من مجرد كلمات ركيكة إلى صوت الشعب، الذى وقف ضد المحتل فأصبحت الأغنية جنبا إلى جنب مع الرصاص والبارود، وأصبحت الأغنية تلهب المشاعر والحماس، أصبحت الأغنية فى خندق المقاومة، وظل هذا الأمر على مر العصور فكان للأغنية دور كبير فى كل حروب مصر ضد الاستعمار فى 1956 حتى نكسة 1967، حتى جاء النصر فى عام 1973، وكانت الأغنية تؤرخ لهذا الحدث، لم يكن سيد درويش فقط الذى أنجبته مصر، بل قدمت محمد القصبجى ورياض السنباطى ومحمد عبدالوهاب ومحمد الموجى وبليغ حمدى وكمال الطويل ومحمد سلطان وفؤاد حلمى وحلمى بكر ومنير مراد ومحمد على سليمان، وقدمت مصر سيدة الغناء العربى التى كان يلتف العالم العربى من المحيط إلى الخليج حول المذياع لكى يستمع لعملها الجديد فى الخميس الأول من كل شهر، وهناك عبدالحليم حافظ الذى كان نموذجا لمطرب الرومانسية الأول فى عالمنا العربى، وكان فتى أحلام الفتيات، وحتى الآن هو المطرب الأول، وهناك محمد قنديل وعبدالعزيز محمود وكارم محمود وليلى مراد، ولولا مصر ما ظهر فريد الأطرش وأسمهان، وفى السينما لدينا مئات من المخرجين منهم: يوسف شاهين وصلاح أبوسيف وحلمى رفلة وعزالدين ذو الفقار ومحمود ذوالفقار وحلمى حليم وحسن الإمام وبركات ونيازى مصطفى. كما قدمت أسماء بحجم فاتن حمامة ونادية لطفى وسعاد حسنى ويحيى شاهين ونور الشريف، وكمال الشناوى وحسين صدقى وشكرى سرحان وعماد حمدى، ويحيى الفخرانى ومحمود ياسين وحسين فهمى ومحمود المليجى وتوفيق الدقن ونجيب الريحانى واستيفان روستى وزكى رستم وأنور وجدى. وفى المسرح هناك يوسف وهبى وأمينة رزق وزكى طليمات وسميحة أيوب وكرم مطاوع ومحسنة توفيق، مئات من الأسماء فى كل مجال فنى، وهناك أسماء صنفت على أنها من أصحاب الدور الثانى، وكل واحد يمثل موهبة فذة، وأقل تعبير يقال إن الوطن العربى كله تحدث باللهجة المصرية بسبب الغناء والسينما، وهو أمر لم يحدث فى أى بقعة فى العالم، وكان أدبنا هو المنارة التى نقلت الواقع المصرى إلى العالمية عن طريق أدب نجيب محفوظ صاحب «نوبل» فى الآداب، وكتب على هذا الأديب أن يتعرض كل فترة لهجمات شرسة من هنا أو هناك، رغم أن نجيب محفوظ تفرد فى أنه كان يكتب أعماله من الواقع المصرى، رصد الحارة الشعبية كما نقل ما كان يحدث فى بعض العصور مثل عالم «العوالم»، اللاتى كان لهن دور مؤثر من بداية القرن الماضى وقبل ذلك حتى سبعينيات نفس القرن. خلاصة القول إن مصر كما امتلكت الأهرامات والآثار التى تزين أغلب الأراضى المصرية، امتلكت أيضا إبداعا غنائيا وسينمائيا وأدبيا يمثل ثروة قومية، قد يرفض هذا الأمر بعض الناس، لكن عموم الناس وأغلبيتهم يعون قيمته ويعلمون أن الإبداع المصرى بمثابة ثروة قومية لهذا الوطن، من الواجب أن نحافظ عليه ونعلى من شأنه خاصة أن مصر ضربها فى السنوات الأخيرة حالة من الجفاف الفكرى والإبداعى، فأصبح نجم المرحلة محمد رمضان فى السينما و الدراما، وأصبح «أوكا» و«أورتيجا» و«شعبولا» نجوم الغناء، وهذه الأسماء من الصعب أن نتباهى بها بعد أن كنا نتباهى بأم كلثوم وفاتن حمامة، وبالتالى لا بد أن يعى أى إنسان مصرى أن تراثنا خط أحمر، لأنه الشىء الوحيد الذى تحدى الزمن وبقى ليمتع كل عشاق الفن الراقى فى زمن لم يعد فيه إبداع حقيقي يعبر عن عظمة هذا الوطن. مصر ساهمت بمبدعيها وفنانيها فى دعم الحضارة العالمية بمئات من العظماء فى شتى الفنون ولا يخفى على أحد أن مصر عبر تاريخها كان فنها هو الناطق الرسمى باسمها، وأينما يذكر الإبداع الحقيقى فى أى منطقة فى العالم تذكر مصر، لأنها قدمت «عبدالوهاب» و«أم كلثوم» و«حليم» و«نجيب محفوظ» و«يوسف إدريس» و«العقاد» و«توفيق الحكيم» وفاتن حمامة وعمر الشريف. مثلما تذكر انجلترا عند الكلام عن شكسبير، وألمانيا عندما نتحدث عن جوته وبيتهوڤن وباخ، والنمسا عندما يذكر موتسارت وشوبرت، والهند عندما نتكلم عن طاغور، وفرنسا عندما نذكر ڤيكتور هوجو وديبوسى، ولم نر يوما فى هذه الدول سوى كل تقدير واحترام من العامة نحو هؤلاء المبدعين، لأن المبدع هو عنوان وسفير وطنه فى المحافل الدولية.