لماذا فكر شبابنا فى الهجرة غير الشرعية والمجازفة بالمال والحياة دون البحث عن أى فرصة عمل على أرض وطنهم؟! ما سر إثبات جدارة السوريين فى المطاعم وصناعة الحلويات وبيع المحافظ وجلود البطاقات وملابس الأطفال وغيرها فى بلدنا دون خجل من أى مهنة، على الرغم من حصول أغلبهم على مؤهلات عليا وربما فوق العليا؟! لماذا تظل نظرة شبابنا مقصورة على الوظيفة التى تتناسب مع مؤهلاته، ونتكدس على المقاهى بآلاف الشباب العاطل فى تكاسل ولا مبالاة. السوريون فى مصر حكاية شعب يريد العمل فى أى وقت وأى مكان بلا عقد أو شروط. طرحنا أسئلة كثيرة جداً نحاول الإجابة عنها فى هذا التحقيق. يعيش فى مصر 186 ألف لاجئ، منهم 131 ألف لاجئ سورى، حسب تصريح مروة هاشم، المتحدث الرسمى باسم المفوضية السامية لشئون اللاجئين، أما أعداد اللاجئين السوريين فى أنحاء متفرقة من العالم، فقد بلغت 3٫9 مليون شخص. وفى الوقت نفسه، أعلن فيه داكان أبوالخير، رئيس رابطة اللاجئين السوريين، عن العدد الحقيقى للسوريين فى مصر يزيد على 500 ألف، منهم 131 ألف مسجلين لدى مفوضية اللاجئين. ومن أهم المشاكل التى تواجه السوريين فى مصر تحفظ الحكومة المصرية على التصديق على اتفاقية 1951 المادة الخاصة باللاجئين والوصول إلى سوق العمل كان من بين اتفاقية 1951 التى وقعت عليها مصر، يسمح للاجئين بالعمل لمساعدتهم فى كسب الرزق، لكن تحفظ مصر على تلك الاتفاقية يجعل آفاق ذلك محدودة جداً، وقد يتجه البعض إلى سوق العمل غير الرسمية، ويكون اللاجئون وطالبو اللجوء هنا عرضة لسوء المعاملة والاستغلال. ينتشر معظم السوريين فى مصر فى الأحياء الحضرية، فيقومون بتأجير وتقاسم المسكن الذين يقدرون على تحمل إيجاره، ويستخدم العديد من السوريين مدخراتهم ورواتبهم لدفع الإيجار، وأيضاً على اللاجئين السوريين الحصول على تأشيرة القدوم إلى مصر بعد فرض الحكومة تأشيرة الدخول فى يوليو 2013، مما أدى إلى تفريق بعض العائلات. وحسب الأرقام الصادرة عن مؤسسة «فرد» الأهلية والمعنية بتقديم المساعدات للسوريين فى مصر، فهناك 60 ألف طالب سورى فى سن التعليم فى مصر مسجلون فى المفوضية، من بينهم 40 ألفاً يذهبون إلى المدارس، و20 ألفاً يجلسون فى المنزل بلا تعليم. 10 ملايين قطعة ملابس سورية وخلال ال6 سنوات الماضية، استطاع السوريون أن يثبتوا جدارتهم ومشاريعهم داخل ربوع مصر، فمعظم مشاريعهم نجدها فى المأكولات ومحلات الحلوى على الطريقة السورية أو بيعها على الأرصفة، بالإضافة إلى صالونات الحلاقة، فضلاً عن مصانع الملابس السورية التى تضخ فى السوق المصرية شهرياً ما لا يقل عن 10 ملايين قطعة ملابس تسهم فى تلبية حاجة السوق المحلية، ويعتبر السورى هو المستثمر الأول فى مصر منذ عام 2012 طبقاً لتقارير الأممالمتحدة. وبعد أن ذاع صيت السوريين فى مصر وجودة منتجاتهم، أقبل المصريون على المطاعم السورية لتنافس أكبر المطاعم المصرية العالمية، وشهدت مناطق 6 أكتوبر والتجمع الأول ومدينة نصر والشروق افتتاح معارض كبرى للمفروشات لتنافس المفروشات التركية ذات السمعة الجيدة فى السوق المصرية. فضلاً عن اكتساحهم شارع العريش الممتد بين شارعى فيصل والهرم، وأمام النوادى الكبرى، وشارع التحرير بالدقى، وشارع جامعة الدول العربية بالمهندسين، منهم من يفترش الأرض لبيع المحافِظ الرجالى والحريمى، ومنهم من يحمل جواكت جلد لبيعها، وهناك فتيات وسيدات ليبعن الحلويات السورية فى أطباق، والكثيرون منهم اتخذ مشروع محال المأكولات على الطريقة السورية الملاذ الآمن والاستثمار الجيد داخل مصر. «الوفد» تجولت فى معظم الأماكن التى يوجد بها السوريون، واقتربنا منهم كثيراً، فوجدنا شعباً عملياً لأبعد الحدود، يفضلون العمل بإتقان وجدية، ويعشقون صناعة المأكولات والحلوى، وهذا سر نجاحهم، كما قالوا لنا، ومعظمهم جاءوا فى توقيت واحد ما بين عام 2011 إلى عام 2013 هروباً من الصراعات والدمار والخراب التى تشهدها الأراضى السورية. من بين بلدان كثيرة اختاروا مصر، لأنها بلد الأمن والأمان، على حد وصفهم، وأن شعبها أطيب وأجدع شعب. ولكن الغريب فى الأمر أن معظم السوريين رفضوا رفضاً مطلقاً تصويرهم إلا نادراً، متعللين بأنهم لا يحبون التصوير، خاصة أنهم لاجئون يعيشون بعيداً عن وطنهم. سألتهم عن سر نجاحهم داخل مصر ورغبة الكثيرين منهم فى تمديد الإقامة وعدم العودة إلى سوريا لحين انتهاء الحرب؟ فجاءت إجاباتهم واحدة، إنهم يحبون العمل ويدمنون إتقانه ويلتزمون بميعاده ويعملون أكثر مما يتحدثون، وأبدى كثير من الشباب السورى استياءه من كثرة المقاهى فى مصر مقارنين بينها وبين قلة وجودها وربما ندرتها فى سوريا، كما أبدوا تعجبهم من عدم التزام الشباب المصرى بمواعيد العمل، فهم يأتون دائماً بعد مواعيد العمل بساعة أو ساعتين!! بدون اسم ملامحهم الشامية تفصح عن هويتهم من أول نظرة، من أمام الشارع الموازى لمسجد الحصرى ب6 أكتوبر يقف شباب سورى وأمامه منضدتان، الأولى بها خبز سورى يبيعه والثانية رمان وعصارة قديمة يعصر فيها الرمان ويقدمه فى أكواب بلاستيكية للزبائن. اقتربت منه وعرفته بنفسى، فابتسم ووافق على التحدث مع «الوفد» شريطة عدم ذكر اسمه أو تصويره من قريب، فوافقت، فبدأ يحكى عن نفسه قائلاً: أبلغ من العمر 30 عاماً حضرت إلى مصر منذ 4 سنوات، وكان لدىّ محل صيانة مكيفات فى سوريا، وأنا وحيد أمى وأبى، وكنت على استعداد للزواج قبل بدء الصراعات فى سوريا، ولكن كل شىء تبدد وتحطم بعد الحروب والدمار، فمنذ الإعلان عن بدء حظر التجول من الساعة الرابعة عصراً، ومنع السير فى الشوارع بات كل شىء أمامى أسود، فاضطررت إلى غلق المحل، وبدأت أخسر كثيراً ولم أجد ما يكفى للإنفاق على نفسى، أو أن أستعد للزواج، فقررت أن أسافر إلى ليبيا مع أصدقائى، وظللت 5 شهور، ولم أجد الراحة والأمان هناك، فقررت أن آتى إلى مصر بلد الأمن والأمان ووقتها نصحنى أصدقائى بأن مصر هى البلد الوحيد التى يمكن أن يعيش فيها اللاجئون بأمان وراحة، أول عمل لى كان بيع الشباشب على الرصيف، ثم بيع عيش سورى، بجانب عصر الرمان وأسكن فى الحى العاشر مع ثلاثة من الشباب ب1000 جنيه شهرياً، فيكون نصيبى من الإيجار 300 جنيه. سألته عما يتقاضاه شهرياً، فقال مبتسماً: حوالى 700 أو 800 جنيه، بادفع منها 300 الإيجار، ويتبقى 500 جنيه يادوب بيكفونى مواصلات. وأضاف: جواز السفر انتهى ويحتاج 400 جنيه لتجديده، ولم أملك هذا المبلغ، فقام أهلى فى سوريا ببيع الأرض الوحيدة التى كنا نمتلكها لتجديد الباسبور. سألناه عن وجهة نظره، وسر نجاح السوريين فى مصر، وفشل شبابنا فى إيجاد فرصة عمل والرغبة المستميتة فى الهجرة غير الشرعية؟ سكت قليلاً، ثم قال: الصراحة لو الحكومة استطاعت أن تتخلص من البانجو والحشيش والنت من البلد ستتحول مصر إلى أفضل بلد فى العالم، مشكلة الشباب أن عقلهم مغيب عن التفكير. وعن أهم المشاكل التى يواجهها فى مصر، قال إن أمه لم يرها منذ أكثر من 3 سنوات، وعندما فكرت فى قدومها إلى مصر انصدمت بسبب ثمن التأشيرة الذى بلغ 4 آلاف جنيه، أما المفوضية لشئون اللاجئين فلا تعطيهم إلا 120 جنيهاً شهريآً بعكس ما يقال من 400 إلى 1400 جنيه شهرياً، فهذا لا أساس له من الصحة. بلهجة سورية، يجلس أبوعدنان، 65 عاماً، على سور مسجد الحصرى ب6 أكتوبر ويردد: سواك، جلد بطاقة، قبل أن يأتى إلى مصر منذ 4 سنوات. كان يعمل موظفاً فى شركة الوليد للغزل، متزوج ولديه 4 أبناء، ثلاثة منهم متزوجون، ويقيمون فى حمص والأردن، ولديهم أبناء، والابن الرابع شاب، 25 عاماً، ويقيم معهم فى مصر، سبب مجيئه إلى مصر، كما يقول، إن منزله فى حمص تهدم نتيجة لقصف الطائرات ويحمد الله أنه لم يكن هو وأسرته فيه وقت القصف، وبعد هدم البيت توجهنا لدمشق للبحث عن شقة إيجار، وبالفعل أقمنا بها عدة شهور إلا أن قصف الطائرات للمبانى المجاورة جعلنا لم نحتمل ساعة واحدة إضافية، فقررت السفر إلى مصر، فهى أفضل بلد مقارنة بالبلدان العربية المجاورة. وأضاف أبوعدنان: كنت قد تقدمت باستقالتى قبل الحرب عام 2002 براتب تقاعد 32 ألف ليرة سورى خرجت من سوريا، ومعى 300 دولار ما يعادل 3000 جنيه مصرى، وجئت أنا وأسرتى بهما إلى مصر، وأوضح أنه يسكن فى بيت العيلة ب6 أكتوبر، بإيجار شهرى 700 جنيه، والمفوضية تمنحنا 600 جنيه فى الشهر للأسرة كلها يدفع الإيجار وتعيش على خير المصريين وما يتقاضاه من بيع السواك وجلد البطافة. ثقافة الشعوب يتحقق نجاح أى مجتمع من خلال الثقافة التى يتبناها، ومن المعروف أن الشعوب التى تعيش فى منطقة الشام هى شعوب مهاجرة نجحت فى العديد من الدول التى هاجرت إليها حسب كلام الدكتور أحمد يحيى، أستاذ علم الاجتماع السياسى، وهذه الثقافة ترتبط بحب العمل، وانتظام الوظيفة الحكومية، عكس المجتمع المصرى الذى يتبنى الوظيفة الميرى وينتظرها، ولا يعتبر أن هناك عملاً حقيقياً إلا إذا كان يرتبط بالحكومة سواء الراتب مجز أو غير مجز. وأضاف د. يحيى أن هذه الثقافة هى التى أدت لنجاح السوريين فى مصر عندما هاجروا إليها، التى أيضاً أدت إلى وجود العديد منهم فى مختلف الأعمال دون النظر إلى مؤهل وشهادة، المهم العمل الجاد والمميز، فالسوريون يعملون فى كافة المجالات ويكتسحون العديد من المشروعات وينجحون فيها نجاحاً بالغاً، ورغم الظروف التى يعانونها لم نشاهد أى متسول منهم فى شوارعنا، لأن ثقافة العمل والسعى إليه جاهداً هو السبيل فى نجاحهم. ووصف عبدالحميد الشباب المصرى بأنه على عكس السورى تماماً، فرغم توفر العمل فى كافة المجالات الصناعية والزراعية والخدمية، فإنهم يرفضونها لأنها لا ترتبط بوظيفة ميرى حكومية تتناسب مع مؤهلاتهم العلمية، وهذا يؤكد أن ثقافة المجتمع الذى يتبناها هو السبيل فى نجاحه أو فشله. وأكد أنه لا توجد أزمة عمل فى مصر بقدر ما توجد أزمة توظيف والحكومة غير قادرة على توظيف هذا الكم من الشباب، لما وصل إليه عدد العاملين فى الحكومة لأكثر من 7 ملايين موظف، كما توجد بطالة مقنعة داخل الجهاز الحكومى الأمر الذى يحتاج من النخبة المثقفة والإعلام والجامعات والمدارس نشر ثقافة العمل قبل ثقافة التوظيف مع الاهتمام الجاد بالتعليم الفنى، الذى يحتاجه المجتمع والإعلان عن الأعمال المتوفرة فى المصانع وغيرها وطرحها للشباب، وهذا هو السبيل إلى النجاح، مختتماً حديثه بأن الفرق بين الشعب السورى والمصرى، هو الفرق بين شعب يريد العمل، وشعب يريد التوظيف ولا ينظر ولا يهتم إطلاقاً إلى مسميات وظيفية أو الوضع الاجتماعى المتصل بالمؤهلات العلمية.