غني عن القول إن الوضع في مصر جِدّ خطير. التآمر عليها يتم من أبنائها، ومن غير أبنائها. من الداخل، ومن الخارج . لا يراد لمصر أن تكون بلدًا حرًا ديمقراطيًا مزدهرًا. في أجواء الفوضى يجد المتآمرون الفرصة مواتية لتنفيذ أغراضهم الذميمة وأهدافهم الدنيئة. شريحة لا يستهان بها من المصريين صارت ترى الآن أن الحياة في ظل مبارك كانت أفضل وأكثر أمانًا. الشريحة تتزايد. هم يتحولون عن الثورة، يقولون ذلك بتأثير ما يحصل، لأنهم ومن ينضمون إليهم شيئًا فشيئًا لم يكونوا مهمومين بقضية الحرية والديمقراطية، كانوا مشغولين فقط بلقمة العيش ومتطلبات الحياة والأمن. الخبز هنا قبل الحرية، بل أهم عند الجائع والفقير، وهذا ليس عيبًا ولا نقصًا. لم يجرب المصريون العيش في ظل نظام حر وديمقراطي أبدًا، وما يقال عن ليبرالية ما قبل 23 يوليو فإنها لم تكن تمس معظم المصريين، كانت ليبرالية للصفوة والأثرياء والإقطاع فقط، الانتخابات الحرة لم تكن ممارسة منتظمة، والاختيار الشعبي حكم من خلال الوفد سبع سنوات فقط، وكانت متقطعة،وغير ذلك كانت الانتخابات تزور وكانت تقود مصر حكومات أقليات سياسية مستبدة، ولم يكن المصريون في وضع اجتماعي يمكنهم من المشاركة في الاختيار الحقيقي وفي الحكم، كان الفقر أوسع وأشد مما هو الآن، فؤاد باشا سراج الدين جاء إلى قريتنا في مؤتمر انتخابي في التسعينيات من القرن الماضي فقال تذكرت أنني جئت لقريتكم قبل ثورة يوليو، وخطبت فيكم وأنا أقف على كوم من التراب، كان البؤس يعم مصر، وأعجب ممن يتحدثون عن تلك الفترة بأنها كانت الأنصع في تاريخ مصر، بالنسبة لمن كانت ناصعة ؟،هل لمعظم الشعب أم لشريحة محدودة جدًا منه؟،رغم ما نقوله عن الفقر الآن إلا أن الوضع أفضل من الملكية بفضل الإصلاحات الاجتماعية بعد ثورة يوليو. لكن يوليو على الجانب السياسي كرست حكم الفرد والتنظيم السياسي الواحد من عبد الناصر إلى مبارك مرورًا بالسادات،والأحزاب في عهد مبارك كانت مجرد ألعاب للتسلية واللهو. المصريون ليست لديهم تجربة ديمقراطية تراكمية تجعلهم يتمسكون بهذا النظام ويعضون عليه بالنواجذ. هم لديهم تطلعات للديمقراطية، لكن ليس كلهم ، إنما القطاعات المسيسة والشبابية، والقطاعات التي بدأ وعيها يتسع بعد ثورة 25 يناير. من ضمن شعار الثورة مطلبان يتعلقان بالعيش وبالعدالة الاجتماعية، وواحد فقط عن الحرية،وهذه ترجمة واعية لحقيقة مطالب الشعب الذي يريد أن يأكل ويشرب أولاً. أنا أفهم أن الحرية هي الباب الملكي للنهوض الاقتصادي والاجتماعي، أي للعيش وللعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، لكن يحتاج الأمر إلى توعية القطاعات غير المتعلمة،وغير المهتمة بالسياسة وبالشأن العام بقيمة وضرورة قضية الحرية، وأفضل تعليم يكون من خلال التجربة العملية، أي الانتخابات،وتداول السلطة، فهذا النمط الجديد من الممارسة السياسية على المصريين سيجعلهم أكثر إدراكًا، لكن التجربة التي بدأت معرضة للتعثر بسبب من يدفعون البلاد للفوضى والاعتصامات والمظاهرات . من هنا فإن إيمان المصريين بالحرية الذي أشاعته الثورة قد يتراجع، لأنهم يريدون العيش والعدالة الاجتماعية أولاً،وطالما لم يتحقق ذلك فإنهم سيقولون على الأقل كنا نعيش أفضل في عهد مبارك،رغم أن الحياة كانت صعبة، عندما نقارن بين السيئ والأسوأ سنختار السيئ بلا شك، وخصوصًا أن أغلبية من تعاطفوا مع الثورة كان ذلك بسبب البعد الاجتماعي،أي تحسين حياتهم وخلق فرص عمل وتعليم وصحة وخدمات اجتماعية جيدة. الثوار وغالبية القوى السياسية مشغولون بمطالب وصراعات وانقسامات ومزايدات لاعلاقة لها بتطلعات ومطالب الشعب المصري، لذلك ليس لهؤلاء شعبية في الشارع، بل صاروا هدفًا ليصوب المصريون سهام غضبهم عليهم نتيجة لما آلت إلية أحوالهم . والجيش هو الآخر يفشل في الإدارة والحكم، فلا هو قادر على تسيير أمور البلاد بهدوء ولا هو قادر على وضع حد لكل مظاهر الفوضى، يكتفي فقط بتعليق المسؤولية على الأيادي الخفية أو الطرف الثالث دون أن يكشف من هو، كأنه لا يعرف أو يعرف ويغطي وفي الحالتين فهي مصيبة للمؤتمن على البلد. كثرة الاعتصامات والمظاهرات والاشتباكات والانقسامات جعلت فريقًا من المصريين يكرهون الثورة، هذا صحيح . يقولون ماذا جنت لنا هذه الثورة ؟. هذا سؤال جد خطير. وإذا لم تكن الاعتصامات في التحرير والشوارع الجانبية تعطل الحياة في مصر، إلا أنها تعطي أجواء نفسية عامة للداخل والخارج بأن مصر في أزمة عنيفة، ويساهم إعلام التجهيل والتضليل - الخاص بالذات - الذي تحركه أهداف تدميرية في تضخيم الأزمة.هو إعلام يصيب بالاكتئاب والإحباط ويتصارع مع بعضه البعض على التسخين والتصعيد لكسب مشاهدين وبالتالي معلنين،أو تقف وراءه أهداف تخريبية غير الربح طالما هو مطمئن لمصادر تمويل خفية. فقدت الاعتصامات والمظاهرات ألقها وبريقها وقيمتها والتعاطف معها، وأصبحت ملاذًا للبلطجية، وأطفال الشوارع، وكل الخارجين عن القانون، وهؤلاء لا يعرفون معنى مظاهرات،هم مدفوع لهم لإشاعة الفوضى والتخريب، ومن بقي من الثوار في الشوارع فهم المتطرفون والغلاة، وهؤلاء أخطر لأنهم يساهمون بتدمير البلد عن وعي وتصميم، بعكس المستأجرين الأغبياء الذين يفعلون ذلك عن جهل. من هنا أرى أن اقتراح الدكتور أحمد زويل - وهو رجل له مكانته ونزاهته وليس محسوبًا على أي طرف - ملائم جدًا وهو أن ينسحب المتظاهرون الحقيقيون من التحرير والشوارع المحيطة به حتى ينكشف البلطجية والمأجورون والمخربون ومن يقبضون من الداخل والخارج. كان واجبًا على الثوار العقلاء والقوى السياسية والحزبية والمجلس الاستشاري التقاط المبادرة وتفعيلها فورًا مع المجلس العسكري إذا كانت تلك القوى حريصة على البلد، لكن مرت عدة أيام على مبادرة زويل ومازالت المظاهرات والاعتصامات الفوضوية مستمرة ما يعني أن هؤلاء لهم غرض مما يحدث، وهو غرض غير بريء. لماذا لا ينصرف المعتصمون على أن توضع مطالبهم لدى الحكومة مع التعهد بإيقاف أي مظاهرات أو اعتصامات جديدة طوال الفترة الانتقالية لإنجاز انتقال السلطة في أجواء هادئة، وحتى تتمكن الحكومة من تحقيق هدفيها الأساسيين:الأمن والاقتصاد. إذا لم يحدث ذلك واستمرت هذه المهزلة فماذا يفعل الجيش؟. يكون من حقه - إذن - إخلاء أي مكان فيه معتصمون أو متظاهرون بلا معنى وبكل الوسائل الممكنة. بقاء مصر صار، أهم من البشر.