بكثير من الأريحية والبساطة التى عودنا عليها فى أفلامه، ودون خجل من أدق تفاصيل الحياة الشخصية، كتب الفنان الراحل نجيب الريحانى مذكراته، قصة الخمس سنوات الغامضة فى مطلع حياته عندما كان شابًا والتحق بالعمل فى شركة السكر فى نجع حمادى شمال محافظة قنا، فى بدايات القرن الماضي، ونجع حمادى كانت مركزًا زراعيًا وتجاريًا مهمًا، حيث وقعت أملاك الأمير يوسف كمال أحد أفراد الأسرة العلوية التى حكمت مصر فى الفترة من 1805-1952، وأنشأت فيها الحكومة مصنعًا لتكرير السكر المستخرج من القصب كصناعة مكملة لقطاع الزراعة فى ذلك الوقت. التحق نجيب الريحانى بعد حصوله على شهادة البكالوريا، بوظيفة كاتب حسابات فى شركة السكر بنجع حمادى، فى سنة 1910، فى عهد المدير الفرنسى herray victor ، الذى تولى إدارة الشركة فى الفترة من 1910-1939، بأجر يومى 16 قرشا يوميًا، بما يعادل 4 جنيهات شهريًا، وأقام فى مبنى مخصص لغير المتزوجين، وكان فى ريعان شبابه «21 عامًا»، ولم تكن الوظيفة الحكومية طموحه، إلا أنه التحق بها لتعينه على الحياة بعد تدهور الحالة المالية لوالده تاجر الخيول، والذى ترك على أثرها تعليمه واكتفى بالبكالوريا، وسعى الريحانى لإثبات كفاءته بكل الطرق فى شركة سكر نجع حمادي. يروى نجيب الريحانى على استحياء، فى مذكراته الصادرة عن دار الهلال بعنوان «مذكرات نجيب الريحانى» أنه بعد مرور 7 أشهر من عمله بالشركة، حدث ما عكر صفو حاله، يقول كان باشكاتب الشركة رجلا مسنًا، وكان رحمه الله على نياته، وكان مسكنى مواجها لمسكنه وقد ولدت هذه الجيرة بيننا اتصالا وثيقا ويستطرد: كانت حرم الباشكاتب، على جانب كبير من الجمال، وكانت فى سن تسمح لها بأن تكون ابنته لا زوجة، وفى ليلة من ليالى الشهر السابع له فى الشركة، اضطر الباشكاتب إلى السفر لمصر فى مهمة عمل، فحدث أن اتفق «الريحانى» والزوجة على ألا تغلق باب المنزل، حتى يستطيع المرور فى منتصف الليل. تم الترتيب المتفق، وذهبت السيدة إلى مخدعها بعد أن تظاهرت أمام خادمتها أنها أغلقت الأبواب، ولكن الخادمة أغلقت الباب من الداخل، ويضيف «الريحانى» حان موعد اللقاء فتسللت وما أشد دهشتى حين وجدت الباب موصدا واتجهت إلى منفذ فى السقف (منور) تدليت منه، ولكن الخادمة استيقظت فى نفس اللحظة، وظنتنى لصا يسطو على المتاع، فصرخت بصوتها المنكر، وصحا الجيران ووفد الخبراء وألقى القبض علي، وكانت فضيحة اكتفوا عقبها بفصلى من عملي، فعدت إلى محلى المختار فى قهوة الفن بشارع عبد العزيز. لم يعد لنجيب مجال فى البيت بعد فصله من شركة السكر، لأن والدته كانت قد ضاقت به بسبب سعيه الدائم للفن وعدم استقراره فى الوظائف، فقفلت بابها دونه ليقضى 48 ساعة لم يذق خلالها للأكل طعما لا زهدا منه، ولا أسفا على شيء، ولكن لأنه لم يجد وسيلة يكتسب بها ثمن لقمة العيش. خلافات مديره مع الشركة تُعيده إلى العمل فصل نجيب الريحانى من الشركة بسبب فضيحته مع زوجة رئيسه فى العمل، ولم يمنع ذلك الشركة من إرسال خطاب إليه بعد فترة تطلب منه العودة لاستئناف عمله مرة أخرى، حيث يقول « بعد فصلى من العمل أقمت بطنطا مع إحدى الفرق الفنية وإذا فى يوم بوالدتى تطرق الباب وكان سبب الحضور المفاجئ لها والذى لم أكن أتوقعه انه وصل خطاب لى بعنوان المنزل فى القاهرة من شركة السكر بنجع حمادى تدعونى فيه للعودة لاستئناف عملى بها فجاءت لى بالخطاب لتقنعنى بالعودة وهجر التمثيل. وعن سبب إعادته للعمل رغم سبب فصله منه يفسر «الريحانى» ذلك فى مذكراته قائلا: «حدث بين موظفى الشركة وبين الباشكاتب خلاف استحكمت حلقاته، ولكنهم لم يتمكنوا منه، ولم يجدوا سببا مبررًا لفصله من عمله، فهداهم تفكيرهم إلى استعمال الحيلة كى يحملوه على الاستقالة، وكانت الحيلة هى أن يعيدونى إلى وظيفتى وعندها سيضطر الباشكاتب لهجر الشركة. عاد «الريحانى» سريعًا إلى نجع حمادى منتهزًا فرصة إعادته إلى العمل، ولم يدخل فى صراع مع الباشكاتب الذى أصبح مرؤوسًا لديه، ويستكمل «الريحاني»: قررت أن أحسن معاملته حتى صرنا أصدقاء، وأتقنت عملى حتى نلت ثقة الرؤساء وزاد راتبى إلى 14 جنيها شهريًا. يروى الريحانى: «ظللت قرابة العامين هانئا بعيشى وأقتصد من هذا المرتب مبلغًا يزيد على مائتى جنيه، وفى عام 1912م تسلمت وأنا فى نجع حمادى خطابا من الأستاذ عزيز عيد يخبرنى فيه بأن التمثيل ارتفع شانه وأن الأستاذ جورج ابيض قد عاد من أوروبا وهو ينوى تأليف فرقة، ويستطرد: بعد تلاوة الخطاب وازنت بين ما يحويه هذا الخطاب من مزخرفات ومشوقات وبين ما أنا فيه من نعمة شاملة وراحة كاملة وأخيرًا فضلت البقاء فى نجع حمادى ولتفعل فرقة جورج ابيض بالممثلين ما تشاء، وبعد وقت بدأت أرى الصحافة تهتم بالتمثيل والجرائد تكتب عن فلان وفلان من زملائى كنت اقرأ هذه الأشياء وأنا فى نجع حمادى فضعفت قوة المقاومة فى نفسى ولم اعد احتمل البقاء فى أقاصى الصعيد تاركا هذا العالم يفتح ذراعيه لزملائى الأقدمين فعملت على الحصول على إجازة أقضيها فى القاهرة لأرى عن كثب هذا الفن. ويضيف: جئت إلى القاهرة بإجازة شهرين ومعى مائتان من الجنيهات الذهبية الصفراء وكانت كل ما ادخرته فى السنوات الماضية، ورحت أشاهد تمثيل جورج ابيض وأتوسع فى الإنفاق هنا وهناك كمن ينتقم من أيام الجفاف التى أمضيتها فى الصعيد، لم تأت نهاية الإجازة إلا بعد أن أتت على آخر قرش أبيض من قروشى المدخرة للأيام السوداء. العودة لنجع حمادى والفصل من العمل للمرة الثانية وأخيرا اقترض أجرة القطار إلى نجع حمادى فى الدرجة الثالثة وبعد عودته بدأ يراوده الحنين للفن، أمضى نجيب أيامه بنجع حمادى على هذا الحال وبداخله صراع بين البقاء فى أقاصى الصعيد وبين حلم التمثيل بالقاهرة، لم يجد سبيلاً سوى الصبر والتنفيس عن نفسه بالتمثيل والبروفات الفنية بصحبة بعض الأصدقاء. وفى يوم من أيام عام 1914م جاء خطاب لنجيب فى مكتبه وإذا بالمفاجأة لقد رفت من الشركة مرة أخرى وهذه المرة لم يذكر الأسباب، عندها اضطر الريحانى للرحيل من نجع حمادى وفى جيبه مبلغ 70 جنيهًا أخرى أشهر عمل له بالشركة ليعود إلى القاهرة ويستأنف مشواره الفنى بعد أن أمضى فى نجع حمادى قرابة الخمس سنوات من عام 1910 إلى 1914 ميلادية.