هادئة أجواء اعتصام مجلس الوزراء، غاب عنها ضجيج الباعة الجائلين، وترجل البلطجية غدوا ورواحا، تتراص الخيام على جانبى الرصيف المواجه ل"مجلس الشعب" والمقابل له، ويتوسط الشارع نعوش رمزية ل"شهداء محمد محمود"، معتقة ب"رائحة الوطن" الهائم عشقاً ل"ثورته". ضيق المساحة يضع المعتصمين طوعاً تحت قاعدة "نحن هنا عايشين في كبسولة"، فيما يعنى استحالة عمليات الكر والفر إبان أى إقدام على فض الاعتصام بالقوة، في المقابل يتوقع المعتصمون "إراقة دماء" الجميع ، أو على أسوأ تقدير "إلقاء القبض عليهم"، رغم ذلك يبقى سقف المطالب محتفظاً بعلوه، وملخصاً في "إقالة حكومة الجنزوري". على أعتاب بوابة الاعتصام، تقف شرعية "حكومة الإنقاذ"، ورئيس الوزراء إن أراد دخولها فعليه أن يرضى بحكم "الثوار".. القصاص عنوان يتوسط بوابة "مجلس الوزراء"، يخطف أبصار من اقترب من محيط منطقة الاعتصام ، يبرز بجلاء لون الخط الأبيض، على أرضية البوابة "الصماء" ذات اللون الأسود ، لمقر "حكومة الإنقاذ"، وعلى امتداد الخيام تبقى لافتة تحتضن ما يدور بالعقل الجمعي ل"الثوار" عبر أبيات زجلية ثلاثة تقول "وفروا كل الكلام، مش هنفض الاعتصام، إحنا عايزين دم الشهداء، زي ماقال شرع الإسلام، ولوهتمشونا بالعافية..هنسكن حارة الانتقام"..تلك العبارات تختصر على المسئولين مهام التفاوض "منزوع الفائدة"، وتنذر ب"خطر المواجهة" الذي يزيد الجراح عمقا. ويوم المعتصمين بحسب أحمد سليمان- مخرج – يمر بمنعطفات ثلاثة، أولها، إقبال شديد نهاراً يتخلله مناقشات سياسية متواصلة، ثم منتديات يغلب عليها الطابع الأدبي، انتهاء ب"فقرات عرض أهم لقطات أحداث محمد محمود،والثورة عموما ،عبر "داتا شو"،تشرف عليه حركة"مينا دانيال". فض الاعتصام بالقوة ، خيار ليس ببعيد عن أذهان الجميع ، يعزز منه وفقاً لتقديرات "سليمان"، تصريحات متتابعة من وزراء الحكومة الجديدة تحمل نفيا قاطعا ل"استعمال" القوة مع المعتصمين ، وربما اعتبروا أن تشكيل وزارة الإنقاذ كما يسمونها خطوة نحو تعليق الاعتصام ، لكن ذلك لن يحدث. خطتان معدتان مسبقا ل"استقبال الجنزورى"، إذا أصر على عقد اجتماع بحكومته في مقر "المجلس"، إحداهما والحديث ل"سليمان"، الدفع ب" عشرة أفراد" من المعتصمين لاستقباله ليس لعرض مطالب، وإنما لتوصيل رسالة مختصرة هي "يادكتور كمال ياجنزوري حكومتك غير شرعية"،أما الثانية فستحددها مجريات الأحداث. "لدي يقين أن مطالب الثوار ستنتصر، بس مش عارف هيبقى فيه دم كتير ولاقليل "، بتلك العبارة التي يمتزج فيها التفاؤل بالقلق يفتتح كلامه مايكل يوسف - أحد مصابي أحداث محمد محمود – وصاحب العلم الأشهر في الميدان الذي ظل مرفوعاً طوال أحداث محمد محمود رغم إصابة صاحبه ممهورا ب"رسم تعبيري" ل"الهلال والصليب "من ناحية ، وكلمة "حرية" من ناحية أخرى، لافتاً إلى أن الثورة تثبت يوما بعد يوم أنها ثورة مستقلين بعد تخلي بعض القوى السياسية عن أهدافها. يخشى مايكل الذي أصيب ب"خمس طلقات خرطوش" في الصدر والبطن، فض الاعتصام ، بسبب قلة عدد المشاركين ، وعن نية الانتقام قال "الانتقام بالنسبة إلى هو رفع العلم ، والمشاركة مع المعتصمين ، فقط من أجل دماء الشهداء"، وبنبرة غالبتها الدموع "تضاعفت الجراح بعد مقتل صديقي "مينا دانيال"، وهو ما يدفعنا إلى التضحية في سبيل تحقيق مطالبنا، حكومة ثورية بقيادة البرادعي، أو مجلس رئاسي مدني". يوسف الذي تلقى علاجه في منزله ، خشية إلقاء القبض عليه داخل مستشفى أحمد ماهر التي نقل إليها فور إصابته ، لم يعنيه كثيرا خطورة إصابته ، أثناء عودته للمشاركة فى الاعتصام الجمعة الماضي، بعدما شاهد عبر الفضائيات في منزله ، صمود الثوار في الميدان ، وإصرارهم على مواصلة الكفاح - على حد تعبيره. مايكل يوسف، لم ينس في ثنايا حديثه الإشادة بصديقيه "مايكل كرارة وطارق معوض" اللذين حملا العلم خلال الأحداث، مما دفع بعض الفضائيات إلى عمل "فيلم تسجيلي" عنهما يحمل عنوان |"حكاية علم"، قبل أن يختتم أدار عينيه إلى لافتة تحمل صورة مينا دانيال مذيلة بعبارة (عندما يذهب الشهداء إلى النوم، اصح واحرسهم من هواة الرثاء، وأقول لهم "تصبحون على وطن"). وإلى فقرة الأدب التي تقام عند بوابة الاعتصام الثانية، حيث القصائد التي تحمل رائحة "الميدان"، وتدور في فلك تمجيد "الشهداء"،كان العشرات يتراصون أمام شاشة عرض ،تقلب "فيديوهات" أغاني الشيخ إمام ،ويتخللها إلقاء الأعمال الإبداعية ل"أدباء الثورة" المعتصمون،كان أحمد الصغير ذو ال17عاما حاضرا ب"كراسته" التي تحتضن أعماله الشعرية بسيطة الألفاظ ،عميقة المعنى ،قطعت الكهرباء ،ومعها قطعت رغبة أحمد في الإلقاء ،سينتظر إلى الغد ،ليخرج ما في جعبته ،على رصيف مجلس الوزراء جلس الصغير القرفصاء ،واضعا كراسته بين قدميه ،وبنبرة أسى قال "أنا بكتب ،وكان نفسي ألقي النهاردة" ،،،قلت له "أنا ممكن أسمعك"..،شيء من الإنفراج هبط على وجهه،ثم قال "أنا هقولك حاجة كتبتها عن الدكتور أحمد حرارة ،الذي فقد عينيه ،ونفسي توصل له"،أومأت بالموافقة،تقول قصيدة "الصغير في مطلعها"فقد عيونه عشانك يامصر...فقدهم عشان يحقق نصر...شايف رايات النصر بقلبه..شايف خطاوي منورة دربه"..سيبطل العجب من بدائية أسلوبه الشعري ،حين تعرف أنه طالب في الصف الثاني الثانوي الصناعي ،لكن الحقيقة أن وطنية أحمد ،تطفو على موهبته التي تحتاج إلى "صوبة شعرية" تنمو بداخلها حتى استواء العود.. أحمد الصغير ليس فقط "شاعر " ،يهيم بالثورة ،والثوار ،وإنما حاصل على لقب "حلاق الثورة" ،حسبما أفاد قائلا"أنا موجود في الإعتصام منذ 3 أيام ،بس كنت موجود في الثورة من أول يوم ،وشاركت في أحداث محمد محمود،وأقيم في كشك مواجه لبوابة مجلس الشعب،أمارس مهنة الحلاقة للمعتصمين ،بس ساعات كتير مبخدش فلوس من حد". ويسترسل قائلا "بجيب حق معجون الكريم،لكن باخد أجرة رمزية جنيه ، ومرة واحد أعطاني خمسة جنيه قلت له نقسمها سوى". أحمد الذي فقد والدته في سن العاشرة ، فجرت الثورة ينابيع الشعر لديه ، ودفعته لعشق صلاح جاهين ، وأحمد فؤاد نجم، وفي الوقت ذاته يتمسك بمطالب الثوار في إقالة حكومة الجنزوري.