كمن يبحث عن كنز تحت أنقاض تراكمت فوق سراديب، تفتش عن أثر لزمن فات...أسأل البيوت الحزينة عن ليالي السمر، أمسح بحنين الماضي غبار الطرقات، وأسترق السمع عسي أن تصادفني ضحكات السهاري، لا شىء هنا غير الضجيج.. الزحام ..العبث، وشكاوي السائرين، واحباطات الجالسين في محلاتهم، أبدا ليس هذا هو شارع «محمد علي». بدلا من صوت الموسيقي ومزاح العازفين وضحكات أهل الفن، تجد شجار الباعة والزبائن وصفقات الموبايل وعربات شحن الموبيليا واشتباكات السائقين والمارة يتخللها سعال الكبار والصغار من أبخرة وعوادم السيارات. العمائر التي يعود تاريخها لأكثر من قرن من الزمان تحولت لمحال بيع الورق واعمال التغليف والبلاستيك والزنجوغراف. وقليل من محلات بيع الآلات الموسيقية، تختفي خلف واجهات وأكشاك بيع الموبايل واكسسواراته. الحاج محسن صاحب مكتبة، قضي سبعين عاما من عمره في الشارع فهو «محل اكل عيش ابيه وجده» لكنه شاهد علي تغير أحوال الشارع قال: كنا الأول نشوف الآلاتية والنجوم كانوا يقعدوا علي قهوة التجارة.. وقهوة حلاوتهم.. وكان بيقعد عليها شكوكو وشفيق جلال والابنودي وصلاح جاهين وعبد الوهاب محمد و«عتاولة البلد» القهوة اتغيرت. وكلهم «قلبوا موبايلات» واجهزة كهربائية، ومعظم العمارات هنا اوقاف واتبهدلت.. ينظر الرجل في حسرة الي الشارع قائلا: كان فيه «تروماي»، وكان فيه مطاعم الكاشف بياكل منها الفنانين. كله راح. واولاد الآلاتية والعوالم بيتنكروا لهم وسكنوا بعيدا عن الشارع. تركت عم محسن وما زلت أبحث في الشارع الذي كان التغيير قدره منذ ان بناه محمد علي والي مصر ومؤسس دولتها الحديثة عام 1845 ليصل بين مقر حكمه في القلعة «مقر الحكم» وحي الأزبكية «العتبة» مقر كبار الأمراء بعد أن أتمّ إصلاح قلعة صلاح الدين وفرغ من بناء قصوره بداخلها، وكان من أشهر المهندسين الذين شاركوا في هذه التطورات يوسف بشتاق التركي .. كان متميزاً بفنونه المعمارية الفريدة التي تعكس التنسيق الحضاري في عصره، و كان بالشارع عدد كبير من المساجد والمقابر والحمامات العامة الأثرية. والمطاحن والمخابز.. وجاء الخديو إسماعيل ليضفي عليها الطابع الأوروبي، مستعيناً في ذلك بمهندسين فرنسيين وإيطاليين لتصميم وتنفيذ العمارة الخاصة به وفق عمارة الركوكو والباروك والبواكي. ويتطور الشارع ليصبح قبلة الفن والسمر ليس في مصر فقط بل كان يقصده المبدعون من انحاء الوطن العربي. ولا أحد يعلم سر الشارع العبقري الذي ظل لسنوات طويلة مركز توريد الراقصات والعوالم والعازفين والمطربين والمونولوجيست وعلي نفس امتداده متحف الفن الإسلامي، متمثلاً في أروع المشكاوات والقناديل والسجاد والعملات واللوحات والنقوش على الخشب والزجاج والنحاس والفضة الذي يرجع تأسيسه إلى أول القرن الماضي وتم افتتاحه عام 1903 ليكون أكبر مجمع للآثار الإسلامية الرائعة والنادرة التي تشمل العصور الإسلامية المختلفة. وكذلك اكتسب أيضاً شهرة ثقافية وقورة. ففيه كان يقع مركز ثقافي كبير هو دار الكتب وهو المكان الذي التقى فيه الأدباء والمفكرون والفلاسفة. ولكن هذه هي مصر أرض العجائب وبفعل الزمن وتساقط أوراق التاريخ أصبح الشارع تراثاً وذكرى تحمل روائح العصر الذهبي وليالي الأنس الجميل وزمن ولي بلا عودة. دلني احد اصحاب محلات الآلات الموسيقية علي حفيدة احدي العوالم التي بقيت تسكن شقة جدتها بعد وفاتها منذ اكثر من عشر سنوات. لكنها مازالت تحفظ عنها جيدا حكاياتها وذكرياتها عن الشارع، لكن الحفيدة التي قاربت علي الخمسين عاما اصرت علي عدم ذكر اسم جدتها، متعللة بأن بناتها في الجامعات ولا يفضلن ان يعرف احد ان جدتهن كانت«عالمة»: قالت جدتي كانت تحكي لي عن أنوس المصرية وعزيزة كهربة ونعيمة شخلع وزوبة الكمسارية او الكلوباتية لا اتذكر. وكانوا اصحاب فرق يحيون الافراح والموالد .وكانت فيه شفيقة القبطية وكانت غنية وبتلبس «جزمة دهب» وكان فيه بمبة كشر ودي كانت من عيلة غنية جدا. وتستمر الحفيدة في تذكر ما حكته لها جدتها عن الاسطوات والعوالم اللاتي اعطين للشارع شهرة عالمية وتقول :فيه ناس تيجي تسألني لكن ولادي بيزعلوا رغم ان العوالم زمان كان ليهم صيت وفيهم قدروا يبقوا نجوم بعد كده في السنيما والمسرح..وغالبية سكان الشارع من الفنانين تركوه وذهبوا للسكن في مناطق أخرى مثل باب الشعرية أو مدينة نصر بعد أن كانوا يقطنون درب العنب وباب الخلق.. ويكاد الشارع يخلو من السكان بعدما أصابه التكدس والتغير في هويته.. كانوا اصحاب فرق تحيي الافراح والموالد.. ومن شارع محمد علي خرج صالح عبد الحي وشكوكو وعمر الجيزاوي وشفيق. ويُروى أن الفنانة أمينة رزق حين وفدت للقاهرة مع خالتها، التي تعلمت الرقص بينما احترفت امينة الغناء قبل اكتشاف موهبة التمثيل مثلما أكد لي محمود بائع الآلات الموسيقية وقال : اهل الشارع حفظوا عن اجدادهم قصص الفنانين الذين عاشوا أو قصدوا شارع محمد علي وأهم ما يميز الشارع المقاهي التي كانت تعقد الاتفاقات عليها مع الفنانين خاصة الفن الشعبي وما زالت محال بيع الآلات الموسيقية موجودة بالشارع حتى الآن تعرض وتبيع الآلات من النحاسيات والآلات الإيقاعية كالنقرزانات وآلات السنطور والفيولا والباندير والصاجات والمزمار البلدي والأرغول والناي والأكرديون والإكسليفون والبزق والعود.