شارع محمد علي.. قبلة الفن، ومجمع الفنانين و"الألاتية"، كان ملهما للكثير من أعمال الأدب والسينما والمسرح، وشهدت أروقته وحاراته على قصص نجاح وفشل، منه خرجت إلينا أغلب ابداعات الفن الشعبى، لتصبح خالدة في وجدان أي مستمع مصري، وتكتمل أسطورة الشارع الفنية. مقاهي الشارع كانت جزءا لا يتجزأ من تاريخه، شاهدة على أغلب أيامه، وأحداثه، عليها أجتمع "ألاتية" القاهرة، مكونين جماعات تشدو كل ليلة حتى الصباح بأغنيات حملت كلماتها مواجعهم وأفراحهم، فمن موال إلى زفة، ومن صاجات إلى أنغام عود، لم يتبق منها غير حكايات، يتذكرها من تبقوا على قهوة وحيدة فى ركن منزوي من الشارع، إنها قهوة "الألاتية" كما تشتهر، رغم أنها تحمل اسم "المشير". هذه القهوة التي صمدت في وجه التغيرات التي حدثت بالشارع الذي أصبح أشبه بمعرض كبير للموبيليا، لا تجد للفن أثرًا داخله، سوي بضعة آلات موسيقية متناثرة على واجهات محلات، تحت ما تبقى من "باكيات" حجرية متهالكة. قهوة "الألاتية".. آخر ما تبقى من شارع محمد علي "اللي مخرجش من قهاوي محمد علي مايبقاش فنان"، يقولها الرجل الخمسيني سامى بيومي، صاحب فرقة "حسب الله"، والتي مازلت تتمسك بمكانها حتى الآن داخل قهوة "الألاتية"، التي تزينت بدورها ببوسترات دعائية للفرقة التي احتضنتها منذ نشأتها. تُعد القهوة من مصادر رزق "الألاتية"، فتليفونها الأرضي - قبل ظهور الهواتف المحمولة - كان وسيلة التواصل بين الزبائن والفرق، ويروي صحابها "مشير بحر"، متذكرًا حكايات القهوة التي فتحت أبوابها في عام 1950، كما تقول اللافتة المعلقة على مدخلها. 30 عاما قضاها بيومي سامي داخل القهوة، كانت كفيلة بأن يشعر وكأنها بيته الثاني، فيقول "هنا ورثت المهنة وشوفت واتعلمت"، مدينا بالفضل إلى كل من تركوا أثرهم داخلها، رغم رحيلهم، مضيفا أنه رغم كل ما يراه مازال يحلم برجوع مهنته وفرقته مثلما كانت، على الطراز القديم، كالشارع الذي طرب سكانه لألحان الماضي. قهوة "عدوية" محل "مراتب"! بجوار محل "مراتب" يجلس "سيد حنكش" صاحب محل أدوات موسيقية، ومن الشاهدين على تاريخ المكان، حيث مازال حنينه يأخذه كل يوم إلى شارعه الذي ترعرع داخل حاراته، وبين موسيقييه. يقول سيد "الشارع اتغير والقهاوي معالمها راحت"، موضحًا أن القهوة المجاورة لمحله كان يُطلق عليها "قهوة خليل"، وكانت قهوة عدوية المفضلة، فبداخلها سهر وتغنى بمواويل مازال صداها حاضرًا في قلب "حنكش" حتى الآن. "معرفش ازاي اتحولت لمحل مراتب"، هكذا يقول حنكش متحسرا على حال المكان وذكرياته. بسبب الإزعاج.. "حلاوتهم" تتحول إلى "مقهى عادي" "نور الصباح"، أو كما تُعرف بين "الألاتية" ب"حلاوتهم"، غنى في زواياها "عبد الباسط حمودة" أغانيه وأغاني رشدي وعبد الحليم حافظ، كما يروي أحد ملاك القهوة "علاء مصطفى"، مضيفا "هنا عدى علينا كل ألاتية مصر من عدوية لريكو". لم تكن تدري "حلاوتهم" صاحبة القهوة التي تعد أقدم قهاوي شارع محمد علي، أنها ستتحول يوما ما إلى مجرد قهوة مثل التي تراها في أي شارع عادي، فصاحبها الذي اشتراها من أبناء مالكتها الأصلية قرر طرد جميع الموسيقيين من المكان لانزعاجه منهم، ويقول أخوه "مصطفى"، "أخويا عايز يريح دماغه من الإزعاج والقلق". رغم خلو القهوة من أي مظهر من مظاهر الفن، إلا أن عند مرورك عليها لابد أن تنجذب أذنك إلى الأغانى الشعبية التراثية المنبعثة من راديو قديم، وكأن القهوة تأبى أن تتخلى عن من سكنوها يوما. "التجارة".. من قهوة موسيقية إلى "سنتر موبايلات" "ياما زقزق القمري على ورق الليمون، علشان بلدنا يا وله وجمال بلدنا يا وله كله يهون"، تغنى بها المطرب ماهر العطار يوما، وهو يجلس مع أصدقائه على قهوة "التجارة"، التي كانت ملتقى السمر لموسيقيي شارع محمد علي، حيث احتلت 4 نواصي منه، لتتربع في مكان مميز، يجذب إليها من يمر، لكن كما هجر السكان شارعهم، هجر أصحاب القهوة مكانهم، ليبيعوها إلى أحد التجار الذى حولها إلى سنتر لبيع الهواتف المحمولة ولوازمها. ملتقى "باشوات" الموسيقى أصبح صيدلية "هنا كان يتجمع أبهة فنانين الشارع"، هكذا يقول متولي عطية، أحد سكان "محمد علي" القدامى، متحدثًا عن كازينو شريف الذي تحول إلى صيدلية، نتيجة مشاجرات بين الورثة أضطروا في نهايتها إلى تأجيره، ليُغلق الكازينو إلى الأبد. يحكي متولي عن تاريخ الشارع كأنه جزء من حياته الشخصية، متذكرًا بأسى كيف كان الناس يتعاملون ببساطة وحب، مضيفًا أنه لم يعد يعرف أحدًا من الشارع، فأغلب جيرانه هجروا المنطقة منذ زمن.