فى دار أم كلثوم لرعاية المسنين والأيتام لاحظت فى وجوه من صافحتهم عيناى أن جميعهم تعساء اختلفت أعمارهم واتحدت ملامح بؤسهم.. حفر الزمن على وجوههم سنوات من العذاب والمعاناة يتساوى فى ذلك من جاء إلى الدار من المسنين فقدوا الحياة الأسرية فى بيوتهن أو من المتسولين الذين أقلعوا عن هذه العادة السيئة وهذا السلوك السيئ، أو أيتام «مجهولى النسب» وجدوا حناناً من بشر ليسوا آباءهم، وإنما تعاملوا معهم بكل معانى الإنسانية. «الوفد» زارت جمعية التجمع الوطنى للمرأة المصرية «أم كلثوم» وجدنا فتيات صنعت لهن الدار مستقبلاً مختلفاً يتعلمن منه فنون الحياكة وغيرها من الحرف والمهن التى تدر عليهن وعلى أسرهن المال، وتقيهن شر تقلبات الزمن، والدار وإن كانت بها إمكانات كبيرة لا توجد فى أى دار أخرى، ويحظى نزلاؤها ببعض العناية، إلا أنها تفتقد الرعاية الدائمة نفسياً واجتماعياً وترفيهياً، إذ يقتصر هذا النوع من الرعاية على المناسبات فقط. ورغم حرص المسئولين الشديد بالدار على عدم إجراء أحاديث صحفية مع النزلاء المسنين والمسنات، نظراً لأن البعض منهم من عائلات مرموقة، ووجودهم على صفحات الجرائد يضعهم وذويهم فى وضع حرج تخوفاً من اهتزاز الشكل العام والوضع الاجتماعى لهم، أمام أصدقائهم وزملائهم ورؤسائهم. رغم ذلك، نجحت «الوفد» فى اختراق سياج الخطر، ليس من أجل سبق صحفى وإنما من أجل إسعاد ورسم البسمة على وجوه نزلاء الدار. فور دخول «الوفد» إلى الدار، بادرتنا إحدى النزيلات قائلة: إزيك يا بنتي؟ ربنا يحفظك أنا عندى ولاد مثلك يمكن فى عمرك ومنهم أكبر منك، ومع تنهيدة عميقة عمق السنين تصمت السيدة المسنة قليلاً، وتنهمر من عينيها الدموع مثل فيضان النهر، وبصوت مخنوق قالت جملة تبكى الصخر: حضنهم وحشنى نفسى أشوفهم وأحميهم من غدر الزمن وحشونى نفسى أغطيهم من برد الأيام وقسوة السنين.. آه يا زمن غدار، قولى ليهم أنا مبسوطة هنا فى الدار وكل حاجة متوفرة وموجودة.. يعنى أنا مش محتاجة منهم ولا أكل ولا شرب ولا لبس.. أنا محتاجة بس أحس بحضنهم وحضن أحفادى قبل ما أموت. واستوقفتنى نزيلة أخرى تجلس على كرسى متحرك تكسو البهجة الزائفة وجهها الحزين قائلة: يا أستاذة الدنيا تلاهى وأولادى عندهم مشاغل ومنهم المسافر خارج مصر وأنا مبسوطة طالما هما مبسوطين، ومش عايزة حاجة من الدنيا غير إنهم يكونوا سعداء فى حياتهم، وهما كل ما يكون عندهم وقت يسمح بالاتصال بيكلمونى بالتليفون.. ربنا معاهم ومعاكى يا بنتى، والدنيا لسة بخير طالما فيها ناس بيهتموا بينا هنا فى دار أم كلثوم.. ربنا يجعله فى ميزان حسناتهم ويجازيهم الله كل الخير، اطمنى يا بنتى والله احنا بخير وأمان وأحسن من غيرنا بكتير. وقبل أن أنتقل إلى مكان آخر بالدار شاهدت فتاة جميلة والابتسامة لا تفارق وجهها، اقتربت منها وسألتها: أخبارك إيه؟ قالت: بخير الحمد لله، سألتها: منذ متى وأنت فى الدار؟ قالت: منذ عشر سنوات أخى جاء بى إلى الدار لأنه تزوج وليس لى مكان أجلس فيه ورغم كل الرعاية والخدمات التى توفرها لنا الدار.. لكن أنا محتاجة أخرج للدنيا.. قلت لها: انتِ مش مستريحة هنا؟ قالت بابتسامة حقيقية: أنا بجد مستريحة جداً ومبسوطة وأنا هنا فى وسط أهلى بالدار من مشرفين ومسئولين وزميلاتى من النزلاء المسنات بالدار، قلت لها: لماذا تريدين الخروج إذن وعلى حسب كلامك إنه ليس لكى مكان سوى أقاربك وهم غير قادرين على رعايتك؟ قالت فى خجل: أنا عايزة أتجوز.. أيوة فعلاً أنا محتاجة الخروج من هنا لبيت زوجية.. نفسى يكون عندى زوج وبيت وأولاد.. وبعد كدة لو هبقى عبء عليهم ممكن يرجعونى تانى الدار.. أنا راضية بس هتولى عريس.. أنا عايزة أتجوز. اقتربنا من سيدة أخرى كانت تسبح بحمد الله سألناها عن صحتها وأخبارها بالدار، قالت الحمد لله بخير ربنا يديم علينا النعمة، وفجأة انهمرت دموعها.. قالت: أنا أبكى عشان انتِ فيكى شبه كبير من بنتى فكرتينى بيها.. وحشتنى كتير لما شفتك كأنى شفتها بالضبط.. أرجوكى تبقى تيجى تزورينا تانى. طلبنا منها الهدوء وعدم الانفعال.. فقاطعتنا وقالت: بنتى عند ربنا توفيت منذ سنوات ودخلت فى نوبة بكاء شديد ونظرت فى عينى بهمسات مخنوقة هستناكى.. هستناكى. وعندما توجهنا إلى المكان المخصص للمسنين الرجال وجدت بعض حالات ينتابها مرض الزهايمر، والتبول اللا إرادى، وبعض حالات مصابة بشلل الأطراف جاء بهم أبناؤهم إلى الدار لأنهم غير قادرين على رعايتهم الصحية. والشىء المفرح أن جميع شهادات النزلاء جاءت تدعم أداء الدار، وتؤكد توافر الرعاية الصحية المطلوبة وأكثر من اهتمام بديل للأسرة من رعاية اجتماعية ونفسية وترفيهية. ووجدنا من بينهم من جاءوا الدار برغبتهم، لأنهم لم يحظوا بالرعاية الاجتماعية والنفسية والصحية من قبل أسرهم وأولادهم.. وأيضاً من كان يجلس مع ابنه ولم يجد اهتماماً من زوجة ابنه، أو يجلس مع ابنته والزوج غير قادر على تحمله ويمثل عبئاً كبيراً عليه، لذلك قرروا المجىء إلى الدار ليجدوا من يرعاهم ويتولى أمرهم من رعاية صحية واجتماعية ونفسية واهتمام ومتابعة وإشراف، ومنهم من جاءوا بحثاً عن الحياة الأسرية فى الدار والأصدقاء والحب والألفة التى لن يجدوها فى مجتمع بات غريباً عنهم.. وهذا حسب ما قالته مديرة دار المسنين الإخصائية الاجتماعية وسام محمد السعيد وتعمل بالدار منذ 20 عاماً. وانتقلنا من دار المسنين إلى دار المتسولين والمتسولات، فوجدنا من يحتجن إلى تعديل سلوك.. ووجدنا من تعانى من الزهايمر ولا تتذكر شيئاً عن حياتها، ومن يعانين من تخلف عقلى ومن يدعين التخلف الوهمى حتى لا يعرف عنهم أحد شيئاً ولا عن أسرهم ولا من هن ولا من أين جئن إلى الشارع للتسول.. وأيضاً من بين هؤلاء نجد فاقدى الأهلية. ونزيلات أخريات كن رافضات الكلام والتصوير نهائياً، ومنهن من جاء إلى الدار بمحضر تسول عن طريق النيابة العامة. وعن بعض حالات المتسولين الرجال وجدنا من هم منفصلون عن الواقع ومنهم من حاول الهرب عدة مرات وفى النهاية يعود مرة أخرى للدار.. ومنهم فاقدو الأهلية ممن ليس لديهم المسكن ولا الأسرة ويجدون الحياة الكريمة التى كانوا يتمنونها فى الدار، ولا يريدون الخروج منها مدى الحياة. واستوقفنا نزيل اسمه جمال بطرس عزمى قال: كنت نائما فى محطة الأتوبيس أستريح من يوم عمل.. وفجأة استيقظت على الشرطة تأخذنى من المكان إلى القسم والنيابة وبعدين حولونى إلى الدار، وأضافت مديرة الدار أن جمال كان دائماً يهرب من أهله وعندما حضروا لزيارته قالوا: الأفضل له أن يظل بالدار حتى يكون فى مكان معلوم له ويتمكنوا من زيارته والاطمئنان عليه، وعن الاستفسار عن سبب عدم استلامهم له، قالوا إنه دائماً يهرب منهم ولا يعرفون أين يذهب؟ وقال نزيل آخر يدعى محمود أحمد فوزى: أمسكت بى الشرطة وأنا جالس على المقهى أشرب شاى وأتفرج على ماتش الكرة، وكنت فى فترة راحة من العمل حيث أعمل فى الفراشة، وكان عندى بيت فى حلوان وأولاد توفاهم الله. نزيل ثالث يدعى صلاح قال: كنت أعمل فى سوق الخضار بالعتبة، وأنا راجع أوقفتنى سيارة ميكروباص وأخذتنى على القسم والنيابة وحولونى إلى هنا، منذ 15 عاماً، وأنا بالدار، وكنت أسكن فى مطرح بالإيجار وطبعاً لو خرجت من هنا مش هلاقيه موجود. شاهدنا نزيلاً يصنع سجادا يدويا على نول اقتربنا منه وسألناه عن اسمه قال: اسمى عبدالناصر، وتبين أنه أتى إلى الدار بحكم محكمة عن قضية تسول منذ 10 سنوات وقدراته العقلية وفقاً للتشخيص الطبى ممتازة لكنه يدعى التوهان والنسيان متعمداً ذلك حتى لا يعرف أحد من أسرته أنه ممسوك فى قضية تسول، خصوصاً أنه من الصعيد وكان يتسول فى القاهرة. وعن دار المسنين قالت مديرة الدار إنها تعمل منذ 20 عاماً بالدار.. وأسر النزلاء بعضهم غير مداوم على زيارة ذويهم، وهذا يسبب للنزلاء اكتئابا. وعن الحالات المجانية للمسنين قال مدير الجمعية محمد حمادة، إن الدار تتكفل بكافة الرسوم، وتوجد حالات كانت أسرها تدفع كافة المصاريف وبعد ذلك توقفت عن الدفع.. وبالتالى تحملنا كافة المصروفات، لأنه لا يجوز أن نطرد حالة إنسانية ونلقى بها فى الشارع، لأن الأسرة غير قادرة على التكفل بها أيضاً من ضمن الحالات المسنة الغريبة التى حدثنا عنها مدير الجمعية، حالة جاءت من مطار القاهرة وتدعى الحاجة زينب وفقاً لطلب وزارة الخارجية لرعايتها، لأنها كانت مصرية سافرت إلى لبنان منذ 50 عاماً لتعمل عاملة رعاية لسيدة لبنانية، وعندما كبرت وتعبت هذه السيدة المصرية اتصل لبنانيون على السفارة طالبين إعادتها إلى بلدها مصر، ولم يجدوا لها أهلاً فى مصر، ولأن الجمعية مخصصة لخدمة أبناء الوطن لبينا طلب وزارة الخارجية ووزارة التضامن، والسيدة كانت سعيدة جداً بالعودة إلى مصر وبعد 20 يوماً توفيت. وعن دار الأيتام بالجمعية قال: لدينا نحو 50 ولداً يتراوح عمرهم من سن 8 سنوات حتى 21 سنة، والأطفال اللقطاء يأتون عبر وزارة التضامن الاجتماعى طوال فترة الرضاعة وحتى سن 4 سنوات ويجرى تعليمهم فى المدارس والجامعات، وعند بلوغ السن القانونية للولد 18 عاماً و21 عاماً للفتاة تعطى الجمعية الولد شقة بحيث يبدأ فيها حياته ويتزوج وتعطيه دفتر توفير فيه 30 ألف جنيه وتوفر لهم الوظيفة المناسبة. ويؤكد محمد أن الهدف من الجمعية خيرى وليس ربحيا.. مضيفاً: لدينا حالات جاءت من مستشفى الصحة النفسية بالعباسية ومستشفى الصحة النفسية بحلوان ليتم استكمال رعايتهم النفسية والصحية والاجتماعية من قبل الدار وفقاً لبروتوكول تعاون تم بين الجمعية ووزارة التعاون. وعن أصعب وأغرب الحالات فى دار المتسولين، قال هناك شخص يدعى بهجت جاء بهذا الاسم وحسب مديرة الدار الأخصائية الاجتماعية نهلة أبوالسعود إبراهيم والتى تعمل منذ 11 عاماً بالدار، فإن لدى بهجت مرض الإحساس بالعظمة.. وكان ضابط ملاحة فى بنى سويف، لكنه جاء الدار عن طريق نيابة قصر النيل فى قضية تسول بحكم محكمة.. وحسب كلام مدير الأمن بالجمعية فإن مشكلة بهجت أنه منذ أول يوم جاء فيه كان ينتقد رئيس الجمهورية الأسبق حسنى مبارك مدعياً أن لديه تخلفا عقليا.. وبعد ذلك غير كلامه وقال إن عقله سليم. وأمام هذه الحالة توجهنا لمتخصص نفسى لنتعرف على أبعاد الحالة كما رأيناها. فقال الدكتور فؤاد أبوالمكارم، أستاذ علم النفس بجامعة القاهرة، عن حالة بهجت: تشخيصهم خاطئ وليس مبنياً على علم، لأنهم على قد حالهم ليسوا متخصصين فى شغل السيكولوجى، وحالة بهجت ممكن أن تكون حالة نفسية يتبعها نوع من البلادة، وبالتالى تعطى نوعا من التدهور فى القدرات الحسية، ولم يعرفوا كيف يأخذون منه الكلام.. ومن الطبيعى أنه لم يسترح لهم فى الكلام، ولذلك ينتابه نوع من التدهور العام فى التصرف.. وهذه الحالة تحتاج إلى متخصص فى الاكلينيكى للمسنين. وأكد أبوالمكارم أن هذا الشخص ليس مصاباً بتأخر عقلى، خصوصاً أنهم قالوا عندما يتحدثون معه فى موضوع ما وهو لا يريد التواصل فى الكلام يتهرب ويدخل فى مواضيع أخرى بعيدة كل البعد عما كانوا يتحدثون فيه.. ولذلك لا يعرفون كيفية استخلاص إجابات منه لأنهم ليسوا سيكولوجيين، بل هم مختصون فى الرعاية الصحية فقط الخاصة بالأكل والشرب والاستحمام والرعاية والعناية الجسدية فقط. ولفت أبوالمكارم إلى أنه بمجرد أن يستجيب معهم ببلادة يعتقدون أنه بالنسبة لهم مصاب بتخلف عقلى لأنهم يعتقدون أن الشخص الذى يستجيب ببلادة أمام كل الناس متخلف عقلياً وهذا ليس صحيحاً.