«حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ»

قَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ:
عَنْ مُعَاذٍ قَالَ: أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ ص، فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ!».
قُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ.
ثُمَّ قَالَ مِثْلَهُ ثَلَاثًا: «هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ»؟
قُلْتُ: لَا.
قَالَ: «أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا».
ثُمَّ سَارَ سَاعَةً فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ!».
قُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ.
قَالَ: «هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ لأ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ».
وَقَدْ ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» أَنَّهُ ص كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا لِهَذَا الْمَعْنَى.
وَتَعْرِيفُ الْعِبَادَةِ ذَكَرَهُ ابْنُ تَيْمِيَةَ بِلَفْظٍ جَامِعٍ شَامِلٍ فِي قَوْلِهِ: «هِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ»، فَمَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ عَمَلِ الْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ إِلَّا وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ هَذَا التَّعْرِيفِ.
وَالْعِبَادَاتُ أَنْوَاعٌ مُتَعَدِّدَةٌ، جَاءَ ذِكْرُهَا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ.
وَكُلُّ فَرِيضَةٍ مِنَ الْفَرَائِضِ عِبَادَةٌ، وَأَعْظَمُ الْفَرَائِضِ فَرِيضَةُ التَّوْحِيدِ بِأَنْوَاعِهِ الثَّلَاثَةِ: تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ، وَتَوْحِيدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْعِبَادَةِ.
وَكَذَلِكَ هِيَ كُلُّهَا مُسْتَمَدَّةٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِمَّا دَوَّنَهُ أَئِمَّةُ الْعِلْمِ فِي مُؤَلَّفَاتِهِمْ فِي عُلُومِ الشَّرِيعَةِ، مِنْ فَنِّ الْعَقَائِدِ-أَيْ بَيَانَ عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ عَلَى وَجْهِ التَّمَامِ- وَالشَّعَائِرِ التَّعَبُّدِيَّةِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، وَالْمُعَامَلَاتِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ وَالسُّلُوكِ.
فَإِذَا قَامُوا بِهَذَا الْحَقِّ؛ فَاللَّهُ كَرِيمٌ يُجَازِي عَلَى الْإِحْسَانِ بِالْإِحْسَانِ، وَيُعْطِي عَلَى الْعَمَلِ الْقَلِيلِ الْأَجْرَ الْكَثِيرَ، كَمَا قَالَ لأ: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَاۖ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [الأنعام: 160]، وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: 245].
فَاللَّهُ كَرِيمٌ، وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: «إِذَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»، وَمَعْنَى ذَلِكَ وَاضِحٌ، مَنْ تَقَرَّبَ إِلَى اللهِ بِالْعَمَلِ الْيَسِيرِ جَازَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالثَّوَابِ الْكَثِيرِ الَّذِي لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحَصْرِ لِلْآدَمِيِّ.
وَلَا يَتِمُّ التَّوْحِيدُ الَّذِي هُوَ حَقُّ اللهِ عَلَى الْعَبِيدِ إِلَّا بِمُجَانَبَةِ ضِدِّهِ، وَهُوَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ لأ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ، الشِّرْكُ الْأَكْبَرُ وَالشِّرْكُ الْأَصْغَرُ وَالشِّرْكُ الْخَفِيُّ؛ وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مَعْلُومٌ؛ دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
فَالشِّرْكُ الْأَكْبَرُ: صَرْفُ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللهِ، أَوْ عِبَادَةُ غَيْرِهِ مَعَهُ. وَمَنْ مَاتَ عَلَى الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ؛ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْخُلُودِ فِي النَّارِ -وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ- لَا يَسْتَحِقُّ الرَّحْمَةَ؛ إِذْ لَا يَسْتَحِقُّ الرَّحْمَةَ إِلَّا مَنْ أَتَى بِأَسْبَابِهَا.
وَأَسْبَابُ الرَّحْمَةِ أَسَاسُهَا تَوْحِيدُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَفِعْلُ الطَّاعَاتِ مِنْ فَرَائِضَ وَوَاجِبَاتٍ وَمُسْتَحَبَّاتٍ، وَالشِّرْكُ الْأَصْغَرُ خَطِيرٌ، وَهُوَ يَكُونُ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ.
وَقَدْ سَبَقَ أَنْ قُلْتُ: إِنَّ التَّوْحِيدَ لَا يَتِمُّ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ إِلَّا إِذَا ابْتَعَدَ الْمُسْلِمُ عَنْ ضِدِّهِ وَهُوَ الشِّرْكُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ، لِذَا جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: «حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ»؛ أَيْ: وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا مِنْ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ أَوِ الْأَصْغَرِ، وَالْقَوْلِيِّ أَوِ الْفِعْلِيِّ أَوْ الِاعْتِقَادِيِّ، فَالشِّرْكُ يَكُونُ فِي الْأَقْوَالِ -كَمَا سَبَقَ- وَفِي الْأَفْعَالِ وَفِي الِاعْتِقَادِ.
وَسَبَبُ النَّجَاةِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الشِّرْكِ الَّذِي يُنَاقِضُ التَّوْحِيدَ، إِمَّا يُنَاقِضُ أَصْلَهُ أَوْ يُنَاقِضُ كَمَالَهُ، سَبَبُ النَّجَاةِ هُوَ الْعِلْمُ؛ مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ وَأَصَّلَ هَذَا التَّأْصِيلَ بَدَأَ فِي تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ وَالْحِرْصِ عَلَى السُّنَّةِ، وَفَهْمِ النُّصُوصِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّوْحِيدِ، وَتَحْرِيمِ الشِّرْكِ، وَبَيَانِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ مِنْ رِضَا اللهِ وَجَنَّتِهِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْوُقُوعِ فِي الشِّرْكِ مِنْ سَخَطِ اللهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ؛ فَقَدِ انْفَتَحَ لَهُ أَعْظَمُ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الرَّحْمَةِ، وَأَتَى بِأَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الَّتِي فِيهَا النَّجَاةُ لِلْإِنْسَانِ.