لم يعد خافياً على أحد، أن أجواء الاستعداد للانتخابات البرلمانية في الصعيد، مشحونة بالترقب لمجهول غير محدد الملامح، ومعبأة بالمخاوف من انفجار المشاحنات العائلية، واندلاع الحروب الأهلية، التي تعيد المناطق الملتهبة بالصراعات القبلية لسابق عهودها الدامية، وتتحول فيها الانتخابات بفعل الموروثات البغيضة، إلى مواسم للضحايا والثأر ورواج تجارة الأسلحة في بورصة علنية، لا يحكمها ضابط أو رابط. تجعل من تلك المناطق، ساحة متسعة لاستعراض القوة، بغرض إثبات التفوق القبلي، والتمايز العائلي داخل القبيلة الواحدة، فالانتخابات دائماً بطعم الموت ورائحة البارود. وفي مواسمها لا تعلو أية أصوات علي صوت الرصاص، أما الاستعدادات الحالية التي تجري علي قدم وساق، فهي تحمل الكثير من المؤشرات التي تبعث علي القلق. القراءة الدقيقة للخريطة الانتخابية بكل تفاصيلها، وتعقيداتها في المناطق الملتهبة، وخاصة قناوجنوبسوهاج والأقصر وشمال أسوان تذهب إلي أن العصبيات القبلية التي تشكل عصب الأحداث وتمدد خيوط اللعبة، فقدت سطوتها، وقدرتها علي توجيه مؤشر العملية الانتخابية. وهي قبائل العرب بعائلاتها شرق وغرب النيل بطول المحافظة «قنا».. والأشراف، الذين يتركز نفوذهم في مركز ومدينة قنا، والهوارة بفروعها البلابيش والهمامية والأحايوة والنجمية». فهذه القبائل تسودها الآن حالة من الارتباك والانقسام الداخلي فضلاً عن صراعاتها الأزلية مع العصبيات المنافسة لها. فهذه العصبيات كانت ضامنة لإحداث التوازن، وتحقيق الاستقرار من تأثيرها علي مجريات الأمور، لكن هذا التأثير تبدد في الآونة الأخيرة بفعل المتغيرات السياسية التي طرأت علي المجتمع عقب ثورة يناير. وتغيير نظام الانتخابات من الفردي إلي القائمة. واتساع رقعة المشاركة الحزبية التي خلقت نوعاً من المنافسة، ليس بين الأحزاب، ولكن بين مرشحي القبائل والعائلات، فضلاً عن اتساع المناطق الجغرافية الخاصة بالمقاعد الفردية، والتي امتدت إلي 5 مراكز تموج كلها بالصراعات القبلية، وهو الأمر الذي أدى إلي خروج العديد من المرشحين عن الالتزامات العائلية، التي يحددها رموز العصبيات. فتغيير النظام الانتخابي أربك كل الحسابات، ففي شمال قنا، الذي يضم مراكز دشنا - الوقف - نجع حمادي - فرشوط - أبو تشت. تتنوع التركيبة القبلية بصورة لافتة للانتباه، باعتبارات التباين بين عائلات تلك القبائل وعدم اتفاقها في جميع الانتخابات التي جرت، وهو الأمر الذي أدركته بعض الأحزاب المؤثرة في تلك التركيبة مثل «الوفد» الذي استطاع أن يحشد ثقل القبيلتين الوحيدتين في مركزي الوقف ودشنا لقائمته، فأحد مرشحيه «كمال موسي» ينتمي للعرب، وأحمد مختار عثمان إلي هوارة البلابيش إلي جانب مرشحين آخرين من بقية المراكز. وكذلك حزب الحرية الذي خرج من رحم «الوطني المنحل» علي رأس قائمته هشام الشعيني من العرب وماهر الدربي من أبو تشت، الأمر الذي دفع مرشحين آخرين للنزول علي رأس قوائم أخري مثل حسين فايز أبو الوفا علي رأس قائمة حزب الاتحاد ومعه آخرون من أبو تشت التي تمثل ثقلاً، أما الحرية والعدالة فقرر أن يأتي بأحد المرشحين من البلابيشي من فاو بحري معقل العرب والهوارة، لكنه انسحب فى اللحظات الأخيرة، لأن ضغوط الهوارة، كانت أقوي من الالتزامات الحزبية، تاركاً الفرصة للقبيلة بأن تقف وراء قائمة الوفد، وفي إطار المحاولات التي لجأت إليها الأحزاب لاستكمال قوائمها في تلك المناطق الملتهبة، دفع بعض المرشحين علي القوائم المؤثرة، ذويهم، ليس بغرض المنافسة، إنما بغرض «الفرم» للتقدم علي قوائم الأحزاب الصغيرة. الغريب أن الحديث عن هذه المنطقة يتجاوز الحدود التقليدية المتعارف عليها في اللعبة الانتخابية، ليمتد إلي مساحات شائكة، اختلطت فيها الأوراق، بداية من الأحكام الجاهزة لهواة الصياح في القنوات الفضائية وليس نهاية بالاتهامات الملغومة، التي انفجرت من خلف بوابة المنافسة وتصفية الحسابات الانتخابية، فالقراءة لواقع المجتمع وطبيعته الجغرافية المعقدة «شرق متاخم للجبل» والغرب، وخريطته القبلية الأكثر تعقيداً تشير إلى أن هذه التركيبة لا يمكن إغفالها بأي حال من الأحوال، خاصة عندما تكون المنافسة بين الأحزاب الليبرالية، والقيادات الأخرى، لأن هذه الخريطة، تضم في أحشائها شريحة هائلة من الغرباء الذين يشكلون الأغلبية الساحقة في قلب بعض المدن مثل نجع حمادي وقنا، ومدينة الألومنيوم، إضافة إلي الأقباط المرتبطين بجذور عائلية في العديد من قري الدائرة وفرضت عليهم ظروف العمل، الإقامة في تلك المدن، فهم يسيطرون علي عصب الحياة الاقتصادية والتجارية، والصيدليات وعيادات الأطباء في مدينة نجع حمادى، وبالرغم من أن هؤلاء جميعاً ليسوا طرفاً مباشراً في الصراعات القبلية، أثناء الانتخابات إلا أنهم ورقة مؤثرة في سير الانتخابات القادمة. وببساطة يمكن القول، إن بقايا نفوذ القبائل سيكون له تأثير، رغم انفراط عقدها، بسبب كثرة المرشحين المنتمين لعائلات كل قبيلة، ولهاث الأحزاب الصغيرة، علي أن يتقدم قوائمها بعض الفئات الهامشية وهو الأمر الذي أدركته أحزاب الوفد، الحرية، الاتحاد، الجبهة، التي رشحت علي رؤوس قوائمها، رموزاً من العصبيات التي تضمن التوازن «عرب هوارة». أما في جنوبقنا، فتوجد قبائل الأشراف والعرب، والأمارة، وتتحكم في سير العملية الانتخابية، العائلات الكبيرة «تاج الدين» دنقل في قفط، وفي قوص ونقادة، لا توجد عصبيات بالمعني التقليدي، والصراع الانتخابي فيها، بين القري، والتكتلات العائلية، وفي هذه الانتخابات يدور الصراع بين أحزاب الوفد، الجبهة، الحرية - الحرية والعدالة، لكن المثير، أن بعض هذه الأحزاب لجأ إلى تفتيت العصبيات، فعلي رأس قائمة الوفد، ياسين تاج الدين من رموز الأشراف، والجبهة الديمقراطية علي رأس قائمتها، أنسي دنقل، والمرشح الذي يليه من الأشراف، وحزب الوسط، وضع علي رأس قائمته محمد سيد عميش «أشراف». وهو ما يعني أن المعركة بين الأشراف مع الأشراف، والعرب مع العرب، والقري بأقسامها في الشرق والغرب، الأمر الذي يشير إلي أن المعركة شرسة في ظل هذا الانقسام، الذي يشبه انقسام العرب. ضد العرب والهوارة ضد الهوارة في الشمال، فإن وضع مرشح الوفد تاج الدين لن يتأثر بالانقسامات التي تدور حول الشخصية المرشحة علي القوائم الأخري، أما جنوب محافظة سوهاج، فالصراع سياسي في المقام الأول، ولا يقوم بأي حال من الأحوال علي الثأر والتربص مثل شمال قنا، في ذات الوقت لا يمكن إغفال وجود نوع من التمايز العائلي، الذي يسعي إلى تحقيقه العديد من العائلات القديمة، التي ينتمي معظمها للعرب والهوارة، ففي مركز البلينا يتصدر المشهد الانتخابي بعض العائلات، مثل أبو ستيت وآل عبدالله، وبيت خليف، وحشمت الهادلي، وأبو الخير، والفلكي، وربما تبدو نفوذ هذه العائلات بسبب اتساع الدائرة لتضم العديد من المراكز والقري في جنوب المحافظة. وفي دار السلام آل رضوان - أبو قورة، وبعض العائلات الكبيرة المؤثرة، ويدور الصراع الانتخابي فيها، بين «الوفد» الذي قام بتقسيم قائمته علي الرموز، والشخصيات التي تنتمي إلي عائلات مؤثرة، وبقية الأحزاب التي خرجت من عباءة «الوطني المنحل» والحرية والعدالة.. والحرية، الذي يرأسه معتز محمد محمود، أما في إخميم فهي من الدوائر الهادئة، التي يتم تقاسم المقاعد فيها بين آل الشريف وبيت المشنف والعمدة. أما في شمال المحافظة فيوجد فيها ثقل للمعارضة. والمثير للدهشة أن هذه الانتخابات بلا معارضة، لأنه لا توجد أغلبية بل تحاول الأحزاب التي خرجت من الحزب الذي كان يحتكر الأغلبية أن تبحث لها عن مقاعد في الخريطة الانتخابية، التي باتت معقدة وعصية علي الفهم، في ظل أجواء مخيفة، انفلات أمني بلغ مداه، وعمليات اتجار في الأسلحة، غير مسبوقة، ناهيك عن الاستعراض بالخروج في حراسة من المسجلين خطر.. وتأتي قنا وخاصة شمالها في مقدمة الأماكن المهيأة للانفجار، بسبب تنامي ظاهرة بيع وشراء الأسلحة، وهروب بعض المحكوم عليهم من السجون، وهنا تكمن المخاوف.