رغم الفرحة العارمة التي عمت ليبيا والعالم العربي بل والعالم أجمع بمقتل القذافي, إلا أنه سرعان ما ظهرت ردود أفعال تصفه بأنه "شهيد" , فيما ذهبت أخرى إلى حد اعتباره "كافرا" ، وهو الأمر الذي يرجح أن رحيله كما كان الأمر في حياته لن ينهي الجدل حوله على الأقل في المستقبل القريب . ولعل تضارب الروايات حول ظروف مقتله يدعم أيضا صحة ما سبق , حيث أكد المجلس الانتقالى الليبى أن القذافى قتل في تبادل لإطلاق النار بين القوات الموالية له والثوار , فيما أظهرت مقاطع فيديو صورت بالهواتف المحمولة ونشرت على مواقع الإنترنت والقنوات التليفزيونية أنه قتل بالرصاص من مسافة قريبة من قبل الثوار الشبان بعد اعتقاله في سرت . بل وجاءت دعوات منظمات حقوقية دولية لإجراء تحقيق في ظروف مقتله لتزيد الطين بلة وترجح أيضا أن الجدل حول القذافي لن ينتهي قريبا . ففي 21 أكتوبر , أعلنت المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة أن هناك ضرورة لإجراء تحقيق في ملابسات مقتل العقيد الليبي معمر القذافي ، في ظل اختلافات الروايات بهذا الشأن . وأوضح الناطق الرسمي باسم المفوضية روبرت كولفيل في مؤتمر صحفي بجنيف أن الظروف المحيطة بمصرع القذافي مازالت غير واضحة ، مشيرا إلى أن هناك أربع أو خمس روايات عن كيفية وفاته وأن هناك حاجة لإجراء تحقيق لمعرفة ما إذا كان قد قتل أثناء القتال أو أعدم بعد القبض عليه. وأشار إلى وجود تسجيلين مصورين من هواتف نقالة أحدهما يظهر القذافي حيا والآخر متوفي ، وأعرب عن القلق بشأن فحوى التسجيلين , قائلا :" إن المرحلة الجديدة التي تبدأ الآن في ليبيا يجب أن تستجيب لتطلعات الشعب إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان". وأضاف "تحويل ذلك إلى حقيقة يتطلب أن تكون حقوق الإنسان حجر الأساس لجميع السياسات والإجراءات" , مؤكدا أن ضمان تحقيق العدالة هو عنصر أساسي لطي صفحة الحكم الاستبدادي للقذافي الذي استمر على مدى 42 عاما . ولم يقتصر الأمر على ما سبق , فقد وصف وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف مقتل القذافي بأنه انتهاك لاتفاقيات جنيف , قائلا :" علينا أن نستند إلى الحقائق والقوانين الدولية , إنها تقول إن كل مشارك في صراع مسلح يجب أن يُعامل بطريقة معينة , وبأي حال من الأحوال لا ينبغي قتل أسير حرب". تصريحات كيرسان وشافيز كما وصف رئيس الاتحاد الدولي للشطرنج الروسي كيرسان إيليومزينوف مقتل القذافي , الذي كان التقاه خلال أحداث الثورة في طرابلس كمعبوث روسي , بالمأساة وبأنه مات شهيدا , بل وكانت المفاجأة أيضا , أن الرئيس الفنزويلي هوجو شافيز سارع هو الآخر لوصف القذافي ب "الشهيد" . وفي السياق ذاته , قالت صحيفة "نيويورك تايمز" الإمريكية إن النهاية الدموية للقذافي هي الأسوأ بين نهايات من سبقه من الحكام الذين سقطوا قبله منذ يناير/ كانون الثاني الماضي. وأضافت الصحيفة " الموت في الإسلام من أجل قضية عادلة يجعل الميت شهيدا، لكن علماء بالأزهر استبقوا احتمال ظهور القذافي في هذه الصورة وأصدروا فتوى قبل أسابيع تحكم بأنه لا يستحق هذا الشرف , لكن من المؤكد أن أفراد أسرته والموالين له سيعتبرونه شهيدا". ولم يذهب الكاتب بصحيفة "الجارديان" البريطانية سيمون تيسدال بعيدا عما سبق , حيث أكد أن مقتل القذافي بما وصفها بالطريقة القاسية من شأنه أن يضع ليبيا على مفترق طرق . ورغم أنه وصف القذافي -الذي سيطر على ليبيا بطريقة تخلو من الرحمة 42 سنة- بأنه كاذب وقاتل وخداع ، إلا أنه أكد أنه بقي على الأقل في عيون أنصاره وفيا لكلمته ، حيث أنه بعد أن انطلقت الانتفاضة الشعبية ضده في فبراير/شباط الماضي وبعد أن تدخل حلف شمال الأطلسي "الناتو" عسكريا ضد ليبيا ، تعهد بالقتال حتى الموت. لا بل إن القذافي -والقول للكاتب- صرح في خطاب له بالراديو بأنه لن يهرب كما فعل الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي وأنه لن يستقل طائرة خاصة إلى المنفى . ورغم أن تيسدال أشار إلى أن "الديكتاتور" الليبي ترك بلادا مأزومة ليس فيها أحزاب سياسية وتفتقر للحقوق المدنية والديمقراطية فيها هي مجرد فكرة بلا جذور , إلا أنه استطرد قائلا :" إن القذافي مات بطريقة مؤلمة وإنه تعرض للضرب بواسطة مسدس قبل أن تطلق عليه النار من مسافة قريبة ليلقى حتفه". وأشار في هذا الصدد لتصريحات لوزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون في العاصمة الليبية طرابلس في 18 أكتوبر والمتمثلة في قولها إنها تأمل أن يتم القبض على القذافي أو أن يتم قتله بأسرع ما يكون كي ينتهي الخوف منه وكي لا يتسنى له أو لأي من أفراد نظامه إعاقة مشروع ما وصفتها بليبيا الجديدة. أما وزراة الخارجية الأمريكية -والقول للكاتب- فسرعان ما أوضحت أن تصريحات كلينتون لا تعني أن سياسة الولاياتالمتحدة لا تقتضي عدم رغبة واشنطن في جلب القذافي إلى العدالة. واختتم تيسدال , قائلا :" إن الحكومات الغربية بما فيها الحكومتان في لندنوواشنطن تعتبر رحيل القذافي المفاجيء أفضل من بقائه، وبالتالي فإن رحيله يضمن عدم احتمال نشوب حرب عصابات طويلة في الصحراء، إضافة إلى تجنب ضرورة استمرار مشاركة الناتو المكلفة، ولكن الميراث الذي تركه القذافي بعده في ليبيا من شأنه أن يضع البلاد على مفترق طرق". واللافت للانتباه أن التعليقات السابقة جاءت بعد أن طالبت أرملة العقيد الليبي الراحل معمر القذافي الأممالمتحدة بالتحقيق في ملابسات موت زوجها بعدما اعتقل حيا من طرف قوات النظام الجديد في ليبيا. وقالت صفية القذافي لتليفزيون "الرأي" السوري الموالي لزوجها :"نطالب الأممالمتحدة بالتحقيق في ظروف موت المجاهد معمر القذافي, وكذلك وفاة ابنه المعتصم". وأثنت أرملة القذافي على شجاعة زوجها وشجاعة أبنائها الذين قالت إنهم وقفوا في وجه 40 دولة ومن وصفتهم بعملائها على مدى ستة أشهر واعتبرتهم شهداء. وقالت :"أفتخر ببسالة زوجي المجاهد معمر القذافي وأولادي الذين تصدوا لعدوان أربعين دولة وعملائها على مدار ستة أشهر، وأحسبهم عند الله مع الشهداء والصديقين". ورغم أن تصريحات صفية السابقة متوقعة , إلا أن مصير عائلة القذافي يضاعف أيضا المخاوف بعدم إغلاق صفحته في المستقبل القريب ، حيث فرت صفية بصحبة ثلاثة من أبناء القذافي -وهم محمد وهنيبعل وعائشة- إلى الجزائر في أغسطس/آب الماضي , في حين فر ابنه الساعدي إلى النيجر. وقتل ثلاثة من أبناء القذافي منذ بداية الثورة -وهم معتصم وسيف العرب وخميس- بينما لا يزال مصير ابنه سيف الإسلام مجهولا , حيث ترددت في البداية أنباء عن مقتله أو فراره إلى النيجر , وسرعان ما ظهر ليتعهد بالثأر لوالده ومواصلة القتال . وذكرت وكالة أنباء "نوفوستى" الروسية في 23 أكتوبر أن سيف الإسلام ظهر فى مقطع بثته قناة "الرأى" السورية وسط مؤيديه وصرح بأنه مازال على قيد الحياة وأنه مازال متواجدا فى ليبيا وسيستمر في قتاله ضد من أسماهم المتمردين , قائلا :" "سنواصل المقاومة، أنا في ليبيا, وأنا على قيد الحياة وعلى استعداد للقتال حتى النهاية والانتقام" . مفاجأة الغرياني ورغم أن البعض كان يعول على أنباء حول تسليم جثة القذافى لأقاربه بموجب اتفاق تم التوصل إليه مع المجلس الانتقالي لوضع حد للجدل حول ظروف مقتله والإسراع ببناء ليبيا الجديدة , إلا أن مفاجأة الشيخ الصادق الغرياني مفتي الديار الليبية حول "كفر" القذافي في حياته وأنه لا يجوز الصلاة عليه جاءت لتفتح الباب على مصراعيه أمام انتقادات لا حصر لها من قبل أقاربه وأنصاره . ففي 23 أكتوبر , أعلن الغرياني أنه لا يجوز شرعًا إقامة الصلاة على القذافي في مساجد المسلمين أو إقامة صلاة الجنازة من قبل عامة المسلمين وشيوخ المسلمين والعلماء والأئمة عليه وذلك لكفره صراحة وإنكاره للسنة النبوية الشريفة وأفعاله وأقواله في سنين حكمه ما يدل على خروجه من الملة - على حد قوله. وأضاف الغريانى - في فتوى شرعية له بثتها وسائل الإعلام الليبية - أن عدم الصلاة عليه تأتى لسبب شرعي وهو كي يكون عبرة لغيره من الحكام. وفيما أشار إلى أنه يجوز أن يغسل جثمان القذافي ويصلى عليه من قبل أهله وذويه فقط , وشدد على وجوب دفنه في مقبرة مجهولة تجنبا لإحداث فتنة بين الليبيين وحتى لا يتحول قبره إلى مزار. وإلى حين اتضاح ردود الأفعال أكثر وأكثر على فتوى الغرياني , فإن المجلس الانتقالي عليه الإسراع بكشف ملابسات مقتل القذافي بالأدلة وليس بالأقوال لتفويت الفرصة على أقاربه وأنصاره للاصطياد في المياه العكرة وعرقلة انطلاق ليبيا نحو المستقبل . وكان رئيس الحكومة الليبية المؤقتة محمود جبريل نفى أن يكون القذافي قد تم اغتياله على يد الثوار الليبيين ، وقال في مؤتمر صحفي عقده في 23 أكتوبر على هامش أعمال المنتدى الاقتصادي العالمى بالبحر الميت :"إنه لا يوجد أى تسجيل يثبت أنه تم قتل القذافي"، مؤكدا أن القذافي كان جريحا في طريقه إلى المستشفى وتعرض موكبه لإطلاق النار. ونفى جبريل رؤيته أي فيديو يصور مقتل معمر القذافي , قائلا: "لم أر أي فيديو يظهر أن أحد الأشخاص قتل القذافي ، وما أعلمه من التقرير الطبي هو أنه عندما تم القبض عليه في النفق كان جريحا، وفي الطريق إلى المستشفى كان هناك اشتباكات" . وبالنظر إلى أنه هناك بالفعل لقطات فيديو تظهر أن القذافي كان حيا عندما اعتقله الثوار بمدينة سرت وأنه توفي بعد ذلك في ظروف غامضة , فإن تصريحات جبريل السابقة يبدو أنها لن تقنع منظمات حقوق الإنسان الدولية , ولذا فإن مسارعة المجلس الانتقالي لحسم الجدل حول كيفية مقتله بات خيارا لا مفر منه لإغلاق أربعة عقود من ديكتاتوريته سريعا والالتفات للمستقبل .