من منا لا ينسى «بحر البقر» أحد أبرز الشواهد على وحشية جيش الاحتلال التى أهدرت دماء طلابها دون قصاص. «كل شهداء ومصابى ثورتى 25 يناير عام 2011 و30 يونية عام 2013 وضحايا العمليات الإرهابية خلال الخمس سنوات الماضية، احتضنتهم الدولة واهتمت بهم ووفرت لهم حياة كريمة وكافة أوجه الرعاية وقدمت لهم تعويضات معنوية ومادية، سواء من خلال التعيين فى مصالح حكومية أو تلقى معاشات شهرية أو العلاج خارج البلاد أو أداء مناسك الحج والعمرة»، هكذا تحدث عدد من مصابي وأسر مجزرة مدرسة بحر البقر فى مركز الحسينية بمحافظة الشرقية لمراسل «الوفد»، مؤكدين أنهم ضحوا من قبل هؤلاء بدمائهم وأرواحهم ولكن دون أن يتلقوا أى رعاية سابقة. وتعود واقعة مجزرة مذبحة بحر البقر إلى الهجوم الذى شنته القوات الجوية الإسرائيلية صبيحة الثامن من أبريل عام 1970، حيث قصفت طائرات من طراز فانتوم مدرسة ابتدائية مشتركة «ذكور وإناث» فى قرية بحر البقر بمركز الحسينية بمحافظة الشرقية، وهو ما أسفر عن استشهاد 30 طفلاً وإصابة 50 آخرين وتحويل المدرسة إلى حطام وركام، وذلك بعد شهرين من واقعة قصف الطيران الإسرائيلى لمصنع شرق القاهرة الذى أدى إلى استشهاد 89 عاملاً، خلال حرب الاستنزاف التى دارت بين القوات المصرية والإسرائيلية آنذاك. ولا تنسى الذاكرة الشعبية التى غلفتها حالة من الحزن، لا يمحوها مرور 46 عاماً على ما عرف ب «مذبحة مدرسة بحر البقر»، إذ عم الحزن منازل أسر الأطفال الذين أصيبوا واستشهدوا فى ذلك التاريخ، جراء قصف غاشم من قبل القوات الإسرائيلية لمدرستهم فى قرية «بحر البقر» إحدى قرى محافظة الشرقية عام 1970، ذلك الحزن الذى اختلط بحالة من اليأس الشديد من عدم إمكانية محاسبة إسرائيل على ما ارتكبته بحق العلم والأطفال الأبرياء العزل. يقول أحمد على الدميرى، 55 عاماً، أحد الأطفال المصابين فى رأسه من الناجين فى الحادث الغاشم، الذى صار مدرساً بذات المدرسة التى تحمل الآن اسم «مدرسة شهداء بحر البقر 2» وتضم متحفاً يحوى الجزء المتبقى من القنبلة التى قصفت المدرسة، وملابس وحقائب الأطفال الذين استشهدوا من جراء القصف، بالإضافة إلى صور تذكارية للرئيس جمال عبدالناصر وكبار المسئولين والشخصيات العامة الذين تعاقبوا على زيارة المصابين فى ذلك الوقت، وقصاصات من القصيدة التى كتبها الشاعر المبدع صلاح جاهين: «الدرس انتهى.. لموا الكراريس.. بالدم اللى على ورقهم سال.. فى قصر الأممالمتحدة.. مسابقة لرسوم الأطفال.. إيه رأيك فى البقع الحمرا.. يا ضمير العالم يا عزيزى».. التى لحنها الموسيقار سيد مكاوى وحملت صوت الفنانة المعتزلة شادية، نعانى إهمالاً واضحاً من قبل المسئولين الذين لا يتذكروننا إلا فى ذكرى المجزرة السنوية التى توافق الثامن من شهر أبريل من كل عام، حيث تقام احتفالية كبرى بالقرية يحضرها مسئولو الدولة، ووسائل الإعلام، ثم تنتهى بلا شىء دون أن يلتفتوا إلى مطالبنا المشروعة التى ننادى بها كل عام، هذه المطالب التى لو تحققت ستعمل على محو جزء من آثار العدوان الغاشم الذى عرضنا وزملاءنا التلاميذ ما بين جريح وشهيد وسط ركام وحطام المدرسة. أحياء عند ربهم ويلتقط السيد محمد محمد شرق، 56 عاماً، طرف الحديث، مشيراً إلى أنه من المصابين فى حادث قصف الطيران الإسرائيلى للمدرسة، حيث أصيب بعدد من الشظايا فى أنحاء جسده، تركت آثاراً مؤلمه فى صدره ووجهه ورأسه وعينه التى مازالت تحتاج إلى جراحة لاستخراج أحد الشظايا التى استقرت بها منذ ذلك الحين، متذكراً يوم قصفت مدرسته، يقول: «عدد طلاب المدرسة 130 تلميذاً، حضر منهم فى هذا اليوم 86 فقط، لا تتجاوز أعمارنا ال 12 عاماً، وكان القدر رحيماً باستشهاد ثلث التلاميذ الذين حضروا فى ذلك اليوم فيما أصيب الآخرون». وبنبرة حزن والدموع تسيل من عينه، يقول: «وكأن الحادثة وقعت بالأمس، لن أنسى زملائى الذين تناثرت أجسامهم بين ركام المدرسة وتلونت ملابسهم وكراريسهم بلون الدماء، هذا اليوم الذى شهد أكبر مأساة إنسانية فى التاريخ». سجل له التاريخ وقال محمد محمد عرفة عرابى، 54 عاماً، الذى اشتهر بصورة له محترقاً ضمن مقتنيات متحف المدرسة التى تعبر عن مدى الكارثة التى تعرضت لها المدرسة وطلابها: «كنت فى الصف الثانى الابتدائى وقت أن تعرضت المدرسة للقصف الصهيونى الذى تسبب فى احتراق جسدى كله وأصابنى بعدد من الشظايا فى قدمى وظهرى، مما جعلنى قعيد الفراش لسنوات طويلة، عانينا خلالها تجاهل المسئولين طيلة السنوات الماضية، ولم نكرم إلا مرتين من وزارة التضامن الاجتماعى التى منحتنا 300 جنيه، حصلنا عليها بعد عدد من السنوات خاصة فى الأعياد والمناسبات الرسمية بعد معاناة من إثبات الإصابات التى لحقت بنا، وتم قطعها بعد ذلك بدون توضيح السبب». وطالب السيد حسن عبدالرحمن، 53 عاماً، أحد مصابى المجزرة، الرئيس عبدالفتاح السيسى بالتكريم المناسب لهم والتعويض عما تعرضوا له خلال هذا العدوان الغاشم على مدرستهم، يقول: «لا نطلب سوى التكريم والتعويض، مثل شهداء ومصابى ثورتى يناير ويونية وشهداء العمليات الإرهابية»، وكشف عن تحريكه والمصابين وأسر الشهداء، دعوى قضائية ضد قادة الكيان الإسرائيلى، لمطالبتهم بتعويضات مالية لا تقل عن التى تقاضاها أسر ضحايا طائرة لوكيربى الأمريكية «فى اسكتلندا» عام 1988 وقدرت ب 10 ملايين دولار أمريكى، و63 مليار يورو ل 8 آلاف يهودى ضحايا الهولوكوست عام 1952، بالإضافة إلى مطالبتهم بمحاسبة المسئولين المتسببين فى إزالة آثار العدوان الغاشم على المدرسة وتسهيل استيلاء عدد من الأشخاص عليها والبناء مكانها، حيث لم يتبق من مساحة المدرسة التى كانت تبلغ 12 قيراطاً سوي قيراط واحد وتم تشييد نصب تذكارى يحمل أسماء عدد من الشهداء، والمساحة الأخرى تواطأ عليها عدد من المسئولين عن قطاع صان الحجر وجمعية شهداء بحر البقر المحلية، فى تسهيل استيلاء عدد من الأشخاص عليها والبناء عليها مبانى سكنية، مما سهل للكيان الصهيونى محو الآثار الغاشمة التى ارتكبوها بحق المدرسة. أين الرئيس؟ ومن جهته كشف المحامى عادل صالح المستشار القانونى ووكيل أسر شهداء ومصابى مجزرة مدرسة بحر البقر، عن قيامه برفع دعوى قضائية رقم 2480 تعويضات لسنة 2014 تنظر حالياً أمام الدائرة 43 تعويضات بمحكمة شمال القاهرة الابتدائية بالعباسية، ضد الرئيس الإسرائيلى، ورئيس الوزراء الإسرائيلى، ووزير الدفاع الإسرائيلى، بصفتهم، للمطالبة بما تضمنه المواثيق الدولية التى تمنح أسر الضحايا والمصابين التعويض المناسب عن جرائمهم التي ارتبكوها ضد الطفولة ومستقبل التعليم المصرى الذى حاولوا القضاء عليه خلال هذه المجزرة، مؤكداً أن هذه الدعوى تحتاج إلى دعم شخصى من الرئيس عبدالفتاح السيسى، حتى يتم البدء فى نظرها وإعلان وزارة الخارجية السفير الإسرئيلى بحيثياتها، ومن ثم توقيف المتهمين فيها طبقاً للأعراف والمواثيق الدولية، وهو ما يدحض ادعاءات المحكمة غير الصحيحة حول عدم إمكانية تحريك الدعوى لأنها من أعمال السيادة وأن المطلوبين يحملون حصانة، علماً بأن حصانة المطلوبين فى مثل هذه الدعاوى تتلاشى مع اتهاماتهم بجرائم الحرب التى لا تسقط بالتقادم، خاصة أن الدعوى تطالبهم بالشق المدنى بالتعويضات. وكشف محامى ووكيل أسر شهداء ومصابى مجزرة مدرسة بحر البقر، عن جريمة أخرى ساعدت على إهدار حقوق الشهداء والمصابين ولا تقل عن كارثة المجزرة الإسرائيلية، وهى قيام المسئولين عن محافظة الشرقية وقطاع صان الحجر وجمعية شهداء بحر البقر المحلية بالتواطؤ فى تسهيل استيلاء عدد من المواطنين على مساحة أرض المدرسة التى لم يتبق منها سوى نصب تذكارى للمجزرة تم بناؤه منذ عدة سنوات، الأمر الذى ساهم بشكل كبير فى محو وإزالة آثار العدوان الغاشم على المدرسة وطلابها.. متسائلاً: كيف يعقل أن يتم بناء محال تجارية فى أرض المدرسة «مسرح الجريمة» التى انتفض لها العالم آنذاك واعتبرها مزاراً سياحياً يغدو إليه أطفال العالم والمثقفون لمشاهدة آثار المجزرة على التعليم المصرى وتلاميذها؟.. كيف تدخلت إسرائيل لإزالة آثار الجريمة؟.. إسرائيل أقامت متحفاً لضحايا الهولوكوست، ونأتى نحن ونزيل آثار جرائمهم، لابد من محاسبة جميع المسئولين عن هذه الجريمة، ولابد من إقامة متحف كبير فى أرض المدرسة الحقيقى يضم كافة مقتنيات الواقعة حتى تكون مزاراً وتذكاراً ندل به ونرشد شعوب العالم على حجم المعاناة التى تعرضت لها المدرسة وتلاميذها.