يا ابنى اسمع الكلام.. وادخل شعبة العلمى. - يرد الابن: بس أنا بحب الشعر والفلسفة والثقافة. ده أنت ناقص تقول إنك بتحب الغنا كمان؟ - بالفعل يا أبى بحب الغناء وكل الفنون والآداب.. لذلك أريد أدرس فى شعبة أدبى. قلت علمى والكلام انتهى.. أنا أريدك أن تصبح طبيباً. ويحقق الابن رغبة أبيه ويدرس فى شعبة علمى.. فى السنة الأولى رسب، وكذلك فى السنة الثانية، فما كان من الأب إلا أن استجاب إلى رغبة الابن وتركه يشق طريقه نحو ما يتمناه، وبالفعل انتقل السيد ياسين من شعبة علمى إلى الأدبى بعدما تكررت مرات الرسوب، ويدرس الحقوق ومن بعده يتعمق فى علم الاجتماع ليصبح بعد ذلك إحدى القامات الفكرية فى مصر والوطن العربى، محققاً حلمه هو بعدما فشل فى تحقيق حلم أبيه. ذهبت إلى المفكر الكبير السيد ياسين فى مكتبه بمركز البحوث والدراسات السياسية بالدقى، ضمن سلسلة حوارات تحت عنوان «حضرة المحترم أبى» لنعود معه إلى النشأة والتكوين.. ونتعرف منه على علاقته بأبيه فى ذلك الزمن البعيد، فالابن – كما يقال عند العرب – سر أبيه، المكان العمارة التى يوجد بها مكتبه حالياً فى شارع مصدق بالدقى، تشبه الثكنة العسكرية، أفراد أمن مدججة بالسلاح وكاميرات فى كل مكان ترصد الشارد والوارد، عند الدور الثانى توقف الأسانسير، وبعد دقائق كنت أمامه، وجلسنا للحوار وأثناء الحديث لاحظت أنه لا يذكر اسم أبيه إلا مسبوقاً بلقب «الوالد العزيز»، فهل كان يشعر السيد ياسين بأن روح أبيه معنا فى المكان وهو الذى – أى أبيه – يشبه السيد أحمد عبدالجواد فى ثلاثية نجيب محفوظ - حسب قوله – ومن ثم كان لا يذكر اسمه إلا مسبوقاً بلقب «الوالد العزيز» احتراماً وتقديراً كما كان يفعل ذلك وهو ما زال طفلاً صغيراً يقف أمام أبيه قبل عشرات السنين. وإلى نص الحوار.. نريد أن نعود للماضي وعلاقة الابن «السيد» بالأب «ياسين».. كيف كانت؟ - أنا من مواليد 3 سبتمبر 1933 والدى العزيز كان أركان حرب مركز تدريب السواحل فى المكس بالإسكندرية، هذا المركز داخل المعسكر، وأنا ولدت داخل المركز. وهل بعد الميلاد تربيت وعشت داخل المعسكر؟ - نعم.. عشت فيه 15 سنة حيث كان بيتنا داخل المعسكر وقضيت مرحلة طفولتى الأولى فى هذا المكان.. ولقد تعلمت الكثير من القيم فى تلك المرحلة. معسكر داخل المنزل أو منزل داخل المعسكر.. كيف؟ - هذا ما حدث.. ولقد تعلمت من هذه المرحلة دروساً عديدة منها مثلاً - الانضباط الشديد، والجدية فى العمل، لأننا كل صباح كنا نشاهد الوالد وهو يقود طابور الصباح من فوق حصانه فى الساعة الثامنة بالدقيقة والثانية، مصحوباً ذلك بالمرشات العسكرية ولمدة ساعتين يومياً. وهل كان الوالد هو الذى يفرض عليكم أن تتابعوا هذا الطابور العسكرى؟ - لا لم يحدث.. لكن نحن الذين كنا نتابع مع تلقاء أنفسنا، فأنت لست داخل منزل بالمفهوم العادى، هذا منزل داخل معسكر أو العكس، وما أن يبدأ الطابور إلا ونبدأ نحن الاستعداد لمتابعته. وهل استمر وجودكم فى هذا البيت – أقصد المعسكر – طويلاً؟ - لا.. تنقل الوالد من مكان إلى آخر ونحن معه، وأتذكر أننا انتقلنا إلى محافظة بورسعيد ومنها حصلت على الشهادة الابتدائية سنة 1945. علاقتك بأبيك.. كيف كانت فى هذا الوقت؟ - أبى من رجال العسكرية المصرية الأصيلة.. فكان فى عمله شديد الانضباط، وفى المنزل كانت له هيبة ورهبة، وكان عندما يعود للمنزل «متسمعش نفس فى البيت» نلتزم جميعاً الصمت، وكان ينام وقت الظهيرة قليلاً ثم يخرج، وعندما يخرج نأخذ نحن الصغار «إفراج» كما يقال بالمفهوم العسكرى ونلعب ونلهو فى المنزل. لكن إذا ما أردت أن تطلب منه طلباً أو تطرح عليه مسألة.. كيف يكون ذلك وهو بهذه الشدة؟ - عن طريق الوالدة الحبيبة، هى التى كانت حلقة الوصل بيننا وبينه. وكأننى أرى نموذج السيد أحمد عبدالجواد «سى السيد» وزوجته الست أمينة؟ - هذا ما أردت قوله نعم كان أبى يشبه السيد أحمد عبدالجواد وليس هو فقط ولكن كان هذا النموذج هو السائد فى أغلب البيوت المصرية فى ذلك الزمان. هل كان مثقفاً بدرجة كبيرة؟ - لا.. ولكن يحببنا فى الثقافة أنا وباقى إخوتى – كنا ثمانية إخوة – وإن كان هو يميل إلى الثقافة العسكرية وكان معجباً جداً بالعسكرية الألمانية، وكان يهتم بالثقافة السياسية، ويتابع بشكل جيد الحركة السياسية وتوقع سقوط الملك فاروق بسبب سوء الأحوال وانفصال النخبة الحاكمة عن الواقع وقتها. إذن الوالد غرس بداخلك حب القراءة؟ - ليس القراءة فقط، بل هو الذى جعلنى أهتم بالسياسة، وأذكر كيف كان يطلب منى وأنا عمرى 12 سنة أن أقرأ له افتتاحية الأهرام، وأذكر – أيضاً – أنه ذات مرة كان هناك مشكلة سياسية بين حزب المحافظين وحزب العمال فى بريطانيا، وقتها قلت له – بطفولتى البريئة –: «حزب العمال ده باين عليه فقير قوى» فقال: لماذا؟.. فقلت: لأنه حزب عمال «باين من اسمه»!.. فابتسم وشرح لى الفرق بين حزب العمال وحزب المحافظين.. وأيضاً من المواقف التى لا أنساها أننا فى البيت كنا نتخطف من بعضنا البعض العدد الأول من صحيفة أخبار اليوم يوم صدورها. ولماذا أخبار اليوم؟ - لأنها كانت في ذلك العصر صحيفة شابة وجديدة وممتعة ومختلفة عن باقي الإصدارات الصحفية، فنحن أسرة كما ذكرت قارئة، وأنا من سن 13 سنة كنت قرأت كل الفكر المصرى، وبعدما أرشدنى أبى وعرفني بمكتبة البلدية فى محرم بيه بالإسكندرية عملت فيها اشتراكاً، ومن يومها بدأت رحلة تحصيل المعرفة والثقافة. هل كانت فى حياة الأب مواقف تعلمت منها؟ - بالتأكيد.. فأنا تعلمت منه الجدية فى العمل والانضباط الشديد والاعتماد على النفس، والاعتزاز بالكرامة، وذات مرة حدثت له مشكلة فى العمل حيث تقدم بشكوى ضد رئيسه فى العمل لأنه – أى أبى – كان لا يقبل إلا الجدية فى العمل والانضباط، المهم أنه تم عزله من منصبه ونقله إلى منصب أقل. وهل انعكس ذلك على الأسرة؟ - طبعاً.. كان هذا زلزالاً مدوياً وقع علينا جميعاً، ولكن أبى علمنا التماسك، وأن أقول الحق وأجهر به، ولا أخاف من أحد فى شىء، طالما أنا على حق. هل تذكر يوم رحيله؟ - كنت فى القاهرة وكان هو – رحمه الله عليه – فى الإسكندرية مع شقيقى الأكبر اللواء ياسين السيد ياسين، وذهبت وأنا حزين لفراقه.. ولكن هذه سنة الحياة، وما دمنا بنتكلم عن الحياة.. كان أبى محباً للحياة، وأذكر أنه وهو فى مرضه الأخير جئنا له بطبيب من كبار الأطباء بالإسكندرية، يومها سأل أبي الطبيب وقال له: يا دكتور إيه آخر أخبار أبحاث إطالة العمر؟.. هذا السؤال وقتها أصابنى بالدهشة، وجعلنى أعرف وقتها كم كان أبى محباً للحياة. هل كان يقربكم من الفن أو من الثقافة؟ - كان يعلمنا كيف نكون رجالاً ونقرأ ونتعلم ونراقب الحياة الثقافية والسياسية ونحلل اتجاهاتها وأوضاعها المختلفة، وما وصلت إليه أنا اليوم من علم ودراسة وأبحاث وعلم اجتماعى وسياسى واستراتيجى، ما هو إلا نتاج ما وضعه أبى وغرسه فى عقلى وأنا طفل صغير. على ذكر الثقافة والفن.. كيف ترى السينما المصرية؟ - أراها على أفضل حالتها. يا أستاذ أنا أسأل عن السينما المصرية؟ - ما أنا عارف.. وأقول لك إن السينما المصرية اليوم أفضل كثيراً من السينما زمان.. وتستطيع أن تقول إن الأجيال الجديدة فيها أكثر إبداعاً من الأجيال القديمة. كيف ذلك والبعض يتهم السينما اليوم بالسطحية؟ - أنت تقول البعض، والبعض هنا ليس مقياساً.. لكن الذى أريد أن أقوله إن السينما القديمة كانت عبارة عن أداء نمطى حتى فى حرفية التمثيل نفسها، وفقيرة فنياً وإذا ما قارنت بين القديم والجديد، فالفرق هنا يذهب إلى السينما اليوم؟ لماذا؟ - لأن الأجيال الجديدة اليوم فى السينما بتمثل «بجد» لديها القدرة على التعبير بالصوت والتجسيد وتقمص الشخصيات بحرفية شديدة، وكذلك اختيار نوعية الموضوعات.. كل ذلك يختلف عن السينما النمطية القديمة فى الأفكار والتمثيل باستثناء بعض الحالات. وهل هذا ينسحب على الثقافة؟ - طبعاً.. إنتاجنا الأدبى اليوم جيد جداً، والقصة القصيرة على أعلى مستوى. كان هذا عن الثقافة ومن قبلها تحدثنا عن الفن ومن قبل هذا تحدثنا عن حضرة المحترم أبى.. لكن قبل أن أغادر مكانى أمامكم.. دعنى أسألك.. ماذا عن مصر ماذا اليوم عن مصر؟.. وماذا عن جماعة الإخوان المسلمين بوصفك باحثاً متميزاً فى التركيبة السياسية والإنسانية للشعب المصرى؟ - أما عن مصر.. فمصر ماضية فى طريقها نحو المستقبل بثبات وقوة بعدما قام شعبها – أقول الشعب وليس الجيش – بعدما قام الشعب بانقلاب على تلك الجماعة فى 30 يونية. الشعب قام فى 30 يونية بثورة أم انقلاب؟ - أنا أسميه انقلاباً شعبياً، ليه؟.. لأن الثورة عندما تحدث يكون لها أهداف محددة ومتعددة، أما ما حدث فى 30 يونية فكان انقلاباً على فكر جماعة جاءت للسلطة، فانكشف عنها غطاؤها السياسى الذى كان يوارى خلفه مشروعها الفكرى، حيث لا خطاب ولا مشروع فكرياً من الأساس.. ومن هنا قرر الشعب أن ينقلب عليهم، وهذا ما حدث بالفعل. طيب هل يرجعوا فى يوم ما للسلطة؟ - يرجعوا للحياة هذا أمر طبيعى.. لكن بالنسبة للسلطة فقد انتهوا للأبد.. ولن يعودوا لها مرة أخرى.