«كل سنة وأنت طيبة يا أمى» كلمة ضاعت من ألسنة أبنائهم، بعد أن تركوهن يقضين باقى ايامهن داخل أدوار الرعاية، ليصبحن «أمهات فى المنفى». قلوب كالحجارة أو أشد قسوة، حولت فرحة الأم بعيدها إلى مأساة، من يمسح دمعها وينفض عنها آلام السنين غير أبنائها، فى اليوم الذى خصص لتذكير الأبناء بالأم وهم فى غفلة عنها معرضون، فى 21 مارس تحتفل الأمهات مع ابنائها بعيدهن، أما الموجودون بدار المسنين يتسرب الحزن الى صدورهم مع وحشة الوحدة والفراق. كان واقع الصدمة يرتسم على وجهها، وتجمدت الدماء فى عروقها، يوم سماعها الخبر طلب لم تتخيل يوما أن تسمعه من أبنائها التى أفنت حياتها من أجلهم، ليكافئوها بالنسيان، لتعود وتسترجع مشاهد متقطعة من ذاكرتها، لحظة تبتسم وساعات تبكي، تحولت علاقتها مع أبنائها الى زيارة روتينية، بعد أن ارتكبت ذنباً فى حقهم، بأن ضيعت سنوات عمرها فى رعايتهم، لتلقى بين جدران الوحدة تتحدث لنفسها عن حالها. فى ذكرى «عيد الأم» التى نادى بها الراحل مصطفى أمين حين طرقت بابه إحدى الأمهات تقص عليه حالها وكيف كرست حياتها من أجل اولادها حتى تخرجوا في الجامعة، وكيف انصرفوا عنها بعد أن تزوجوا، وما اشبه اليوم بالبارحة فاليوم نحكى قصصاً وحكايات عن نساء أضاعن عمرهن من أجل أبناء ضلوا طريق رعاية امهاتهم ولم يجدوا سبيلاً سوى دار المسنين. داخل إحدى دور رعاية المسنين التقينا بعدد من الأمهات اللاتى تركن لأبنائهن الدنيا ليتوارين خلف جدران دور الرعاية حتى لا يشعرنهم بأن الوقت قد حان ليتحملوا هم رعايتهن، وكان لقاءنا بمثابة آلة الزمن التى أعادت ذكريات مضت ولحظات يتمنين لو انها محيت من ذاكرتهن. الحاجة عواطف أم لثلاثة أبناء تعيش داخل الدار منذ 7 سنوات اعترفت بأنها قد جاءت إلى الدار برغبتها بعد أن توفى زوجها وشعرت انها ستكون حماً ثقيلاً على أبنائها حيث عاشت معهم لفترة ولم تشعر بالراحة النفسية وهنا طلبت منهم أن تذهب لدور رعاية المسنين، وهو الطلب الذى قُبل بالرفض من الأقارب جميعهم، حيث عرض الجميع عليها ان تعيش وسطهم إلا أن رغبتها فى ان تنعم بحياة هادئة وسط نساء الدار افضل من عيشها وحيدة داخل جدران المنزل أو تكون ضيفاً ثقيلاً على أحد. وتقول الحاجة عواطف إن أبناءها يترددون عليها للسؤال عن حالها، ويأتون برفقة أحفادهم دائما، اما فى عيد الأم فتقضيه وسط زميلاتها فى الدار أو مع أبنائها أثناء الزيارة، وترى الحاجة عواطف انه يكفى اتصالهم فى عيد الأم حتى لا أرهقهم بالزيارة. أما الحاجة زينب والمقيمة بالدار منذ 7 سنوات فأم لولدين تركت منزلها لابنها وزوجته بعد ان شعرت بالضيق من الحياة مع زوجة ابنها، ولجأت للدار لتعيش حياة هادئة بعيدا عن المشاكل وهو ما رفضته أسرتها، وقد أصر أخوها على ان تعيش معه ولكنها أبت وتمسكت بالحياة داخل الدار، تقول الحاجة زينب إن الدار يوفر كل سبل الراحة للمقيمات، ويقوم بتنظيم رحلات باستمرار للأمهات لكسر الملل، فهى تعيش من معاش زوجها الذى يكفيها وترسل منه لأبنائها ليساعدهم على ظروف الحياة، ورغم حديثها الذى ظهر طبيعيا إلا أن وسط حديثها كانت نبرات الحزن ترتسم على وجهها وصوتها فى بعض الأحيان، وهو ما رفضت ان تبوح به وأظهرت تعامل أبنائها معها فى أحسن صورة. أما الحاجة قدرية فأم لخمسة أبناء تعيش بالدار منذ عامين وقد ظهرت عليها أعراض النسيان «الزهايمر» ولكن حبها وتعلقها بأبنائها لم يغب عن ذاكرتها للحظات حيث تقول إن أبناءها يترددون عليها وتذهب إليهم باستمرار بمعدل يومين أسبوعيا وهى الآن تتواصل مع ابنها الأكبر لتعيش معه باستمرار وتترك الدار، وقد تركت منزلها بسبب الوحدة التى تعيشها، فلم يعد يسأل عنها احد وتقول انها بعد أن جاءت للدار تعيش مع صديقاتها فى هدوء، وهو الأمر الذى نفته المسئولة عن الدار التى اكدت انها دائما ما تتصل بأبنائها باستمرار ولكن دون جدوى فهم دائما يتهربون من زيارتها وهو ما أثر بشكل كبير على حالتها النفسية. سونة ممدوح مديرة الدار تقول إن جميع الأمهات فى الدار قد ألفن الدار وأصبحت كبيوتهن ولكن الصعوبة كانت فى الفترة الاولى لهم فى الدار حيث تركت الأم ممتلكاتها التى عاشت فيها سنوات عمرها، وتودعها بحزن وفى تلك الفترة تعيش حياة تعيسة للغاية وتصاب باكتئاب شديد ولكن مع الوقت تزول تلك الحالة تدريجيا. وتكمل أن الدار تستقبل الأمهات وتضع شرط الكفيل والذى يكون مسئولاً عنها فى حالة تعرضها للتعب، ويكون اتصال الدار بالكفيل دورياً وباستمرار، ولكن للأسف أغلب الحالات التى تأتى إلينا يتركها أولادها وكأنهم تخلصوا من عبء ثقيل، ونحن فى الدار نأتى بهدايا عيد الأم من أجل إدخال الفرحة الى قلوبهن، ويبدأ العيد مع بداية شهر مارس وحتى نهايته وتأتى الهدايا من زوار الدار أيضا.