أيام معدودات وتكمل ثورة 25 يناير شهرها التاسع، والكل ينتظر أن تضع مولودها وسط توجس الكثيرين من أن يصبح حملا كاذبا، أو يسفر المخاض عن مولود مشوه وربما «مجنون» بعد مرحلة الاضطرابات ونفق الاكتئابات النفسية الطويل الذي زج فيه الشعب المصري زجا وهو لا يعرف نهايته. اسألوا إن شئتم عن ضحايا البورصة المصرية، وعن قطاع الطرق وخفافيش الأحياء المنسية، وإن نجونا من قطار الفلول لم ترحمنا قوافل الهجامة ولا كمائن البلطجية، الاضرابات أصبحت خيارنا والاعتصامات باتت ملاذنا، والتفجيرات قدرنا والاغتصابات والسرقات مصيرنا، وفوق كل ذلك أصبح السراب هو مبلغ أملنا، فهل تنتظرون من شعب هذا حاله إلا أن يكون فريسة سهلة لسلسلة جديدة من الأمراض النفسية والعصبية تؤدي الي توطين «فوبيا» من الديمقراطية والحرية لدى كل من تسول له نفسه الاقتراب من هذه الدائرة. عندما هبت ثورة الشباب في ميدان التحرير, وانهار النظام السابق، وتفككت مباحث أمن الدولة استبشرنا خيرا لانقاذ المجتمع من حافة الجنون التي رسمها أباطرة البيزنس والصفقات المشبوهة وأرسوا قواعدها في كل حي وقرية ونجع في مصر، جاءت الثورة وكأنها بلسما للمرضي النفسيين الذين يعانون من الاكتئاب, والإحباط, والفصام, والاضطرابات الوجدانية في العهد «المباركي», ودليل ذلك ان المرضي المترددين علي العيادات الخارجية المتخصصة, بمستشفي العباسية للأمراض النفسية تقلصت أعدادهم إلي النصف في المرحلة الأولى لإسقاط النظام! بل أفرطت العديد من الجهات في التفاؤل وعقدت المؤتمرات الشعبية والسياسية والثقافية للتنظير للمرحلة المقبلة، ومن بينها طل علينا مؤتمر طبي عقد تحت عنوان (نحو أعصاب سليمة)، ولم يتخلف مستشفى العباسية عن هذا السباق المحموم وراحت تبحث بدورها لمعرفة سبب هذا التقلص اللافت للنظر. هل هي حالة من الأمل والتفاؤل ساعدت النفس المتعبة والغاضبة علي الهدوء أم أن الأحداث حجبت المرضي ومنعتهم من الخروج لأن ميدان التحرير، فعدد الحالات التي كانت تتردد يوميا علي العيادات الخارجية للمستشفى حوالي ثلاثمائة مريض بالفصام والإضطراب الوجداني والإحباط , وذلك قبل أحداث ثورة 25 يناير, وبعد الأحداث تقلصت الأعداد إلي النصف, وأغلبهم من الحالات الصعبة والعنيفة. والمعروف أن مستشفي الأمراض النفسية بالعباسية والتي تضم 1740 مريضا ومريضه من أوائل الذين رفعوا راية العصيان في وجه حكومة الدكتور أحمد نظيف ووزير الصحة الدكتور حاتم الجبلي, عندما استشعر العاملون في المستشفي أن هناك نية مبيتة لتسريح المرضي, وبيع الأرض لمستثمرين عرب وأجانب, وقد خرج العاملون من أطباء وصيادلة وممرضات وفنيين وموظفين وتظاهروا في طريق صلاح سالم معترضين علي مؤامرات حكومة نظيف, واحتجوا وهددوا بالاعتصام حتي يتم وقف بيع الأرض، وكانت هذه الوقفة من أجل المرضي البسطاء الذين يعانون من مرض النفس والفقر. ولا يملكون إمكانيات العلاج علي نفقتهم الخاصة في المستشفيات الاستثمارية ملتهبة الأسعار. انفعل المؤتمر الطبي آنذاك مع حركة الشباب المصري في ثورته علي الظلم والفساد, وواجه الرصاص الحي والمطاطي والقنابل المسيلة للدموع، ولخص المؤتمر المناخ النفسي للمجتمع لحظة ميلاد الثورة بعبارة: «خسارة كبيرة لأي مصري لم يعش هذه اللحظات التاريخية الفارقة في ميدان التحرير إنها لحظة غيرت تاريخ مصر والمنطقة العربية، والمؤكد أيضا أنها لعبت دورا فارقا في تراجع الاضطرابات الوجدانية لدي المواطنين». الي هنا اعتقدنا أنه لن يكون هناك مريض نفسي في مصر بعد زوال نظام مبارك، هكذا كانت تشير الدلائل، الا أن طول فترة الحمل وتعثر مرحلة المخاض دفع فريق آخر من المختصين للنبش في اضطراب ما بعد الصدمة، أو ما يطلق عليه الاضطرابات النفسية التي تصيب الشخص بعد التعرض لصدمة قوية، أو معايشة تجربة صعبة ومؤلمة، واستحضر هذا الفريق ما يعرف علميا بمرض الPTSD الذي اكتشف بعد حرب فيتنام. هذا الاضطراب النفسي يأتي نتاج صدمة قوية جداً يتعرض لها الشخص بعد معايشة أحداث صعبة ومروعة، وتظهر الأعراض عادة بعد شهور من التعرض لهذه الصدمة، حيث يشخص ال PTSD بعد مرور شهر من الصدمة على الأقل؛ من خلال ملاحظة عدة أعراض فسيولوجية ونفسية معينة، وما تعرض له معظم الشباب خلال الثورة وبعدها ينذر بحدوث هذا الاضطراب بشكل واضح خلال الفترات اللاحقة. وتتمثل أهم أعراض هذا المرض في عدم قدرة الشخص على التأقلم والتعايش مع الواقع، وحدوث اضطرابات في النوم الذي يصحبه فزع ليلي أحيانا، بالإضافة إلى اضطراب المزاج الذي يظهر في صورة قلق، وتوتر، وفقدان للشهية، واضطراب التركيز، والصداع في بعض الأوقات. ما دعاني إلي التطرق لهذا الموضوع تلك الأجواء المحبطة التي تنقلنا من مفرمة «اللاسلم» والتنكيل البدني والنفسي في العهد السابق إلى طاحونة الاغتصاب السياسي للانتهازيين والمتاجرين بأحلام الشباب في هذه المرحلة الضبابية التي ربما تضعنا بين رحى حرب أهلية أو إقليمية. تسعة أشهر ونحن كالذي يحرث في الماء، لم نقترب مجرد الاقتراب من تشخيص الداء، فمتى نجتمع على كلمة سواء ونعالج أمراضنا وأوجاعنا بأيدينا، خاصة أن كل منا يعرف طريق الدواء؟