نعمة الثلاثاء , 27 سيبتمبر 2011 14:56 يقول الشاعر الكبير نزار قباني: «السيد نام.. كيف أصدق أن الهرم الرابع مات؟ القائد لم يذهب أبداً.. بل دخل الغرفة كي يرتاح!» حقاً كيف نصدق أن السيد «حسني مبارك» (الهرم الرابع) ذهب إلي الأبد ولن يعود وإذا عاد أمام أعيننا، سيأتي ممدداً كالأموات علي نقالته الطبية وخلف الأسوار العالية الحديدية منتظراً قدراً محتوماً ونهاية مأساوية. لن نستسلم بعد اليوم ل «السيد» ولن نجعله يدخل الغرفة كي يرتاح ثم يعود ليحكمنا بالحديد والنار مرة أخري بعد أن يكون استرد عافيته الاستبدادية. لن يأتي بعد اليوم «السيد» ليبقي ويعيش جاثماً علي صدورنا فيدمي أرواحنا التواقة للحرية. سنصدق ما تنبأ به عالمنا الجليل الدكتور إمام عبدالفتاح أستاذ الفلسفة في عام 1994 حينما كانت خشبة المسرح السياسي العربي يعتليها الأقزام فجاءت علي أيديهم غزوة العراق علي يد المحتل الأمريكي والخنوع والانبطاح الكامل للعدو الصهيوني والتشرذم والقمع والاستبداد بطول البلاد العربية وعرضها، ولكن صرخة الدكتور إمام عبدالفتاح في كتابه القيم والنادر في بحثه «الطاغية» الذي صدر عن سلسلة «عالم المعرفة» في عنفوان الأنظمة العربية المستبدة لم تذهب أدراج الرياح.. بل فضحهم وعراهم أمام أنفسهم، قرأ مصيرهم المشئوم والمسطور في الغيب الذي نفذته العناية الإلهية فيهم فلم يصدقوه واعتبروا نبوءته لهم أضغاث أحلام سرعان ما يطلع نهار حكمهم! فجاء إعدام صدام حسين علي يد أعدائه وهرب «بن علي» و«علي عبدالله صالح» واختفي «القذافي» ويقبع «حسني مبارك» في زنزانته الطبية لا يصدق أن رسالة قديمة عمرها سبعة عشر عاماً قد بعثها الدكتور إمام عبدالفتاح إليه ولكل الطغاة العرب فلم يفضها ليقرأها ويتأملها بل تركها مستهيناً بها.. كانت رسالة الإنقاذ والحياة له ولغيره من مصيرهم الحالي. يبرر الدكتور إمام عبدالفتاح في سخرية لاذعة مقصوده أسباب عدم بحث شخصية الطاغية ومبررات وجودها ونهايتها المختلفة في الأوطان العربية، ربما لأن الباحث لا يجرؤ علي الكتابة في هذا الموضوع ما بقي الطاغية متربعاً علي كرسي الحكم فإذا ما تنفس الناس الصعداء، بعد زواله، نسوا أو تعمدوا نسيان الأيام السوداء التي عاشوها في ظله وظنوا - واهمين - أنها ذهبت إلي غير رجعة! ولا يصدق الدكتور إمام عبدالفتاح عبارة «إلي غير رجعة» فقد قالها مازحاً حيث يؤكد أن عالمنا العربي عاش تاريخه الطويل يحكمه طغاة من كل نحلة ولسان ومازال الطغيان يطل برأسه هنا وهناك كلما سنحت الظروف، وهي كثيراً ما تسنح في عالم متخلف ترتفع فيه نسبة الأمية، ويغيب الوعي، فلا يستطيع الشعب أن يعتمد علي نفسه فينتظر من يخلصه مما هو فيه، فتكون بارقة الأمل عنده معقودة علي «المخلص» و«الزعيم الأوحد» و«المنقذ» و«القائد الملهم» و«مبعوث العناية الإلهية» والرئيس الذي نفديه ب «الروح وبالدم» ولطول إلفنا ب «الطاغية» لآلاف السنين لم نعد نجد حرجاً ولا غضاضة في الحديث عن «إيجابياته» وما فعله من أجلنا من جليل الأعمال - تذكر معي جماعة «أسفين يا ريس» الآن - ولست أجد رداً أبلغ من قول السيد المسيح: ماذا يفيد الإنسان لو أنه ربح العالم وخسر نفسه؟ فنحن لو افترضنا أن له إيجابيات «هائلة» فما قيمة هذه الإيجابيات إذا كان ثمنها تدمير «الإنسان» وتحطيم قيمه وتحويل الشعب إلي جماجم وهياكل عظمية تسير في الشارع منزوعة النخاع، شخصيات تافهة تطحنها مشاعر الدونية والعجز واللاجدوي؟.. أيكون ما فعله طغاتنا من «إيجابيات» أكثر مما فعله «هتلر» الذي أجتاح أكثر من نصف القارة الأوروبية بل احتل بعض دولها في ساعات قلائل؟ ثم.. ترك ألمانيا تحتلها أربع دول، كلا!.. لا قيمة لإيجابيات الطاغية بالغة ما بلغت لأن الثمن باهظ جداً، ضياع الإنسان! يعدد الدكتور إمام عبدالفتاح العوامل التي تؤدي إلي ظهور الطاغية ومبررات وجوده والدعائم التي يستند إليها في حكمه ويري أنها عوامل تاريخية وجغرافية وعوامل اجتماعية واقتصادية فمنها: إنقاذ الشعب أو إصلاح ما أفسدته الحكومات السابقة بل قد يدعي أنه «مبعوث العناية الإلهية» وأنه أعلم الناس بما يصلح لهم! هذه هي لُب الرسالة القديمة التي بعث بها الدكتور إمام عبدالفتاح في كتابه إلي كل الطغاة العرب لعلهم يفيقون ويتقون الله في شعوبهم وتتمثل في كلمة واحدة «الديمقراطية» مصراً علي أنها ليست تجربة اتخذها الغرب ولا تصلح لنا بل هي تجربة إنسانية بالدرجة الأولي تحترم الفرد وطاقاته وقيمه وإمكاناته وتعمل علي نموها وتطويرها إلي أقصي حد وهي الروشتة الناجعة لكي نحمي أنفسنا من الطغاة.