كان الانتظار يوم الجمعة 21 أيلول/سبتمبر طويلاً ومرهقاً، ليس فقط لعائلات وأقارب العسكريين المتهمين بمحاولة الانقلاب على الحكومة التركية، ولكن أيضاً لكافة دوائر الدولة وعموم الشعب. أخيراً، ومع بداية المساء، بدأت أحكام القضية التي شغلت الرأي العام التركي منذ بدأت في 2010، واستهلكت 108 جلسات تقاض، في الصدور. برأت المحكمة الجنائية العليا في دائرتها العاشرة 36 متهماً، وحكمت على 3 جنرالات متقاعدين بالسجن لعشرين عاماً، وعلى أكثر من 320 متهماً آخر بالسجن لمدة تتراوح بين 16 18 عاماً. ليست هذه أحكاما نهائية، بالطبع، لأن المتهمين جميعاً يتمتعون بحق الاستئناف، ولكن وصف القضية، نوعاً وحجماً وأحكاماً، بأنها غير مسبوقة هو وصف متحفظ بالتأكيد. الجيش الذي لعب الدور الرئيس في رسم ملامح تركيا الحديثة منذ انقلابه الأول على السلطان العثماني في 1908، الذي كان أحد جنرالاته من أقام الجمهورية وحكمها بلا منازع حتى وفاته، والذي قاد انقلاباً وراء الآخر منذ 1960، وتدخل في شؤون الدولة، علناً وخفية، طوال أكثر من أربعة عقود، وقف كبار ضباطه أمام محكمة مدنية للدفاع عن أنفسهم في قضية تناولت سلوكاً تصوره الجنرالات حقاً لا جريمة: الانقلاب على حكومة منتخبة. وفي النهاية، تدين المحكمة معظم المتهمين وتصدر أحكاماً قاسية بحقهم. تعود قضية 'المطرقة،' التي اكتسبت اسمها من الاسم الرمزي للانقلاب الذي خطط له عدد من ضباط الجيش، إلى عامين ماضيين، عندما سربت مصادر عسكرية لصحيفة تركية تسجيلات لاجتماع عسكري، عقد في 2003. نظم الاجتماع، الذي أخذ صيغة 'السيمنار' العسكري، بعض من كبار ضباط الجيش آنذاك، الذين عارضوا تولي حزب العدالة والتنمية الحكم في البلاد، واعتقدوا أن الانقلاب بات الوسيلة الوحيدة للتخلص من الحكومة الجديدة. والواضح من التسجيلات المسربة، ومن مجريات التحقيق والمحاكمة، أن مخططي الانقلاب لجأوا إلى ذات الأساليب بالغة الشر والإجرام التي اتبعها أسلافهم من الانقلابيين في 1980، بتصورهم أن نشر العنف والاغتيالات في أنحاء البلاد، بما في ذلك زرع متفجرات في مسجدي بايزيد والسلطان أحمد الكبيرين في وقت صلاة الجمعة، سيوفر مسوغاً لتدخل الجيش وإطاحة الحكومة التاسعة والخمسين للجمهورية. وبالرغم من ان القضاء التركي لم يزل ينظر، منذ 2008، قضية لا تقل أهمية، تتعلق بتنظيم سري، عسكري مدني، باسم أرغنكون، تغلغل أعضاؤه طوال عقود في بنية الدولة ودوائر الصحافة والقضاء، وعمل بتعاون وثيق مع بعض كبار ضباط الجيش، لم يعد هناك شك أن بعضاً من حوادث الاغتيال، التي شهدتها تركيا في السنوات القليلة التالية لانتصار حزب العدالة والتنمية في 2002، كانت في الحقيقة ذات صلة وثيقة بمخطط الانقلاب على حكومة إردوغان. أثارت الأحكام في قضية المطرقة أصداء واسعة. قال ابن أحد الجنرالات، معبراً عن شعور عشرات الضباط المدانين وعائلاتهم، إن القضية تمثل نهاية للجيش التركي. من وجهة النظر هذه، انتهى الجيش لأن قيادته الحالية رفضت التدخل في مجريات العملية القضائية؛ بما يوحيه هذا الموقف من تغيير جوهري في سلوك الجيش وعلاقته بالدولة. البعض من أنصار الضباط، وصف المحاكمة بأنها أشبه بمحاكمات ياسيادا، الجزيرة الصغيرة في بحر مرمرة التي حوكم على أرضها المناوئين لانقلاب 1960، في واحدة من أكثر حلقات القضاء والعدالة التركية مدعاة للسخرية. ولكن الإيحاءات هنا، أيضاً، لم تكن خافية؛ فمنذ بدأت حكومة العدالة والتنمية إصلاحاتها الدستورية والقانونية، نظرت دوائر النخبة الكمالية إلى سياسات إردوغان باعتبارها رداً انتقامياً متأخراً على إطاحة حكومة مندريس في 1960 وإعدامه. من جهة أخرى، تلقت محاكمة الضباط دعماً بارزاً من أوساط لم يكن من المتوقع أن تعلق على هكذا تطورات. فقد قال الجنرال حلمي أوزكوك، قائد الأركان في 2003، الذي خطط الانقلابيون لاغتياله، إن المحكمة لا يمكن أن توصف بغير العادلة. حرص أوزكوك على النأي بالجيش عن التدخل في الشأن السياسي، بعد نجاح العدالة والتنمية في انتخابات 2002، هو الذي ولد الاعتقاد بأن رئيس الأركان الأسبق هو الذي منع وقوع الانقلاب. ولكن الجنرال أيطاش ويلمان، قائد القوات البرية في الفترة ذاتها، أكد أنه شخصياً كان من وقف في وجه الانقلابيين، وعمل على إبعاد القوات البرية، التي لم يكن الانقلاب ممكناً بدونها، عن مخططات الضباط المغامرين. ما تؤشر إليه تصريحات هذين الضابطين الكبيرين، اللذين تسلما الموقع الأول والثاني في قيادة الجيش، أن مخطط الانقلاب كان حقيقة، وأن المحاكمة كان لها بالفعل ما يبررها، وأن الأحكام التي أصدرها القضاة غير مبالغ فيها، بغض النظر عن النتيجة التي ستصل لها محكمة الاستئناف. لم يكن هناك من شك، في الشهور الأولى لتولي حكومة العدالة والتنمية، أنها تواجه معارضة واسعة النطاق في أوساط النخبة والطبقة الكمالية التقليدية، الشرائح المدنية منها والعسكرية، أو الأتراك ذوي الدم الأزرق كما يصفهم عموم الشعب. كان الحزب، الذي قدر له أن يستمر في الحكم طوال السنوات العشر التالية، ولا يبدو اليوم أنه يواجه منافساً جاداً، قد ولد في ظروف مدهشة ومثيرة لشك الطبقة التي حكمت الجمهورية وسيطرت على مقدراتها منذ مطلع القرن العشرين. فقد انحدر قادة الحزب جميعهم تقريباً من خلفية الرؤية الوطنية (مللي غروش)، التي ارتبطت بنجم الدين إربكان والأحزاب الإسلامية التي أسسها وقادها منذ منتصف السبعينات. وبالرغم من أن العدالة والتنمية ولد من خلاف قادة العدالة والتنمية مع إربكان، واقتناعهم بلا جدوى تصوره للسياسة وما يمكن أن يناسب تركيا في هذه المرحلة من تاريخها، فأحداً لم يكن على استعداد ليقبل مصداقية خطابهم المؤيد لعلمانية الدولة واحترامهم لقيم النظام الديمقراطي. ولكن هذه لم تكن مشكلتهم الوحيدة؛ فحتى مصداقية خطابهم السياسي ما كانت لتؤمن موقعاً لهم في أوساط الطبقة الكمالية التقليدية. خلف التشكيك في توجهات العدالة والتنمية السياسية كان ثمة مسألة أعمق، تتعلق بالانقسام الاجتماعي الذي عاشته تركيا منذ نهايات العهد العثماني. قاومت الطبقة الحاكمة، من قضاة ووكلاء نيابة وكبار موظفي إدارة الدولة وضباط ورؤساء جامعات ورجال أعمال، التي أمسكت بمقاليد الجيش وجهاز الدولة وحزب الشعب الجمهوري، كل محاولة لتغيير البنية الاجتماعية للسلطة الحاكمة. الأحزاب التي سمح لها بالانتساب إلى دائرة السلطة، هي تلك التي أصبحت جزءاً من الشرائح الاجتماعية ذاتها، أو تلك التي سلمت بهيمنة تلك الشرائح. ولم يكن خافياً، حتى خلال حكم مندريس في سنوات الخمسينات، أن هناك تلازماً وثيقاً بين الخارطة الحزبية التركية والانقسام الاجتماعي بين الحاكمين والمحكموين. ما رأته الطبقة الكمالية التقليدية في حزب العدالة والتنمية، الذي وصف نفسه بالديمقراطي المحافظ، ليس خطراً على علمانية الدولة وكماليتها وحسب، بل وخطراً على سيطرتها على مقاليد البلاد كذلك. بكلمة أخرى، مثل حزب العدالة والتنمية قوة أتراك الأناضول، أبناء الفلاحين، الذين عملوا طويلاً من أجل رفاه الطبقة الحاكمة، وهم يطلبون حق المشاركة في الحكم والدولة. المشكلة أنه في كل مرة بدا أن تركيا توشك أن تشهد انتقالاً اجتماعياً في بنية السلطة والحكم، وقف الجيش، حارس قلعة الطبقة الحاكمة الأخير، بالمرصاد. وفي 2003، كان هناك المئات من الضباط، وربما الآلاف، الذين كان لديهم الاستعداد للقيام بمهمة الحراسة المطلقة مرة أخرى. كان الجنرال أوزكوك قائد أركان جيد؛ بمعنى أنه لم يرد للجيش أن يغرق مرة أخرى في وحل انقلاب جديد، بعد التجربتين المرتين من الدماء والجريمة اللتين غرق فيهما الجيش في انقلابي 1960 و1980. وربما عارض الجنرال يلمان كذلك محاولات ومخططات ضباطه الانقلابية في القوات البرية. ولكن إخفاق انقلاب 2003 وما تبعه من محاولات للانقلاب، كاملة أو محدودة، أو استخدام الجيش للضغط على الحكومة المنتخبة ورئيسها، لابد أن يرى في سياق أوسع. فمع نهاية التسعينات، لم يعد الشعب التركي ليقبل، بأي صورة من الصور، وبغض النظر عن التدافعات السياسية، بسيطرة الجيش على الحكم، مهما كانت المسوغات. وكانت أية محاولة انقلابية ستواجه بمقاومة شعبية عارمة. وهذا ما أدركه زعيم العدالة والتنمية ورئيس الحكومة؛ وبهذا الإدراك المبكر استطاع إردوغان مواجهة ضغوط الجنرالات بصورة حاسمة. كانت حزمة التعديلات الدستورية التي استطاعت الحكومة تمريرها في البرلمان قبل عامين هي التي فتحت الباب أمام محاكمة العسكريين أمام محاكم مدنية. وكما مثلت تلك الحزمة من التعديلات منعطفاً هاماً في تاريخ الجمهورية، فإن محاكمة 365 ضابطاً بتهمة التخطيط للانقلاب على الحكومة المنتخبة، وإدانة أغلبهم، هي منعطف آخر لا يقل أهمية. بيد أن هذه ليست نهاية العلاقة المشتبكة وبالغة التعقيد بين الجيش والدولة في تركيا، تماماً كما إن ما شهدته مصر في أغسطس/ آب الماضي من حسم للصراع على السلطة لم يكن نهاية الطريق للإشكالية المشابهة، إلى حد كبير. ففي معظم أنحاء العالم، ودول العالم الثالث الرئيسة على وجه الخصوص، تغيرت طبيعة الجيوش خلال نصف القرن الماضي، سواء بفعل العسكرة المتزايدة للعلاقات الدولية أو بفعل التدخلات المتكررة للجيوش في الشأن العام. لم تعد الجيوش مجرد مؤسسات ذات تقاليد خاصة وروح فريق متفرد، تمتلك أعلى وسائل العنف؛ بل اتسع نطاق عملها وأدواتها، لتتصل بالاقتصاد والتجارة والمال والإعلام والجامعة والبحث العلمي. وعندما تكون التقاليد الديمقراطية للدولة الحديثة لم تزل هشة، يصبح من الضروري إعادة النظر في مجمل علاقة الجيش بالدولة، العلاقة بمعناها الأوسع.